محمّدا صلىاللهعليهوسلم ، فهم المقصود من هذا الكلام كيفما تفنّنت أساليبه وتناسق نظمه ، وأيّا ما كان فالمقصود الأوّل من هذه الخطابات أو من حكايتها هم مشركو العرب ومكذّبو محمّدصلىاللهعليهوسلم ، ولذلك تخللت هذه الخطابات مستطردات وتعريضات مناسبة لما وضعه المشركون من التّكاذيب في نقض أمر الفطرة.
والجمل الثّلاث من قوله : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) ـ وقوله ـ (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ـ وقوله ـ (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف : ٣١] متّصلة تمام الاتّصال بقصّة فتنة الشّيطان لآدم وزوجه ، أو متّصلة بالقول المحكي بجملة : (قالَ فِيها تَحْيَوْنَ) [الأعراف : ٢٥] على طريقة تعداد المقول تعدادا يشبه التّكرير.
وهذا الخطاب يشمل المؤمنين والمشركين ، ولكن الحظّ الأوفر منه للمشركين : لأنّ حظّ المؤمنين منه هو الشّكر على يقينهم بأنّهم موافقون في شئونهم لمرضاة ربّهم ، وأمّا حظّ المشركين فهو الإنذار بأنّهم كافرون بنعمة ربّهم ، معرّضون لسخطه وعقابه.
وابتدئ الخطاب بالنّداء ليقع إقبالهم على ما بعده بشراشر قلوبهم ، وكان لاختيار استحضارهم عند الخطاب بعنوان بني آدم مرّتين وقع عجيب ، بعد الفراغ من ذكر قصّة خلق آدم وما لقيه من وسوسة الشّيطان : وذلك أنّ شأن الذرّية أن تثأر لآبائها ، وتعادي عدوّهم ، وتحترس من الوقوع في شركه.
ولمّا كان إلهام الله آدم أن يستر نفسه بورق الجنّة منّة عليه ، وقد تقلّدها بنوه ، خوطب النّاس بشمول هذه المنّة لهم بعنوان يدلّ على أنّها منّة موروثة ، وهي أوقع وأدعى للشّكر ، ولذلك سمّى تيسير اللّباس لهم وإلهامهم إياه إنزالا ، لقصد تشريف هذا المظهر ، وهو أوّل مظاهر الحضارة ، بأنّه منزّل على النّاس من عند الله ، أو لأنّ الذي كان منه على آدم نزل به من الجنّة إلى الأرض التي هو فيها ، فكان له في معنى الإنزال مزيد اختصاص ، على أنّ مجرّد الإلهام إلى استعماله بتسخير إلهي ، مع ما فيه من عظيم الجدوى على النّاس والنّفع لهم ، يحسّن استعارة فعل الإنزال إليه ، تشريفا لشأنه ، وشاركه في هذا المعنى ما يكون من الملهمات عظيم النّفع ، كما في قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) [الحديد : ٢٥] أي أنزلنا الإلهام إلى استعماله والدّفاع به ، وكذلك قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦] أي : خلقها لكم في الأرض بتدبيره ، وعلّمكم استخدامها والانتفاع بما فيها ، ولا يطرد في جميع ما ألهم إليه البشر ممّا هو دون هذه في