قالوا وجدنا عليها آباءنا ، وليس المراد بالإنكار والنّهي خصوص نهي الإسلام إياهم عن ضلالهم ، ولكن المراد نهي أيّ ناه وإنكار أيّ منكر ، فقد كان ينكر عليهم الفواحش من لا يوافقونهم عليها من القبائل ، فإنّ دين المشركين كان أشتاتا مختلفا ، وكان ينكر عليهم ذلك من خلعوا الشّرك من العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأمّية ابن أبي الصّلت ، وقد قال لهم زيد بن عمرو : «إنّ الله خلق الشّاة وأنزل لها الماء من السّماء وأنبت لها العشب ثمّ أنتم تذبحونها لغيره» وكان ينكر عليهم من يتحرج من أفعالهم ثمّ لا يسعه إلّا اتّباعهم فيها إكراها.
وكان ينكر عليهم من لا توافق أعمالهم هواه : كما وقع لإمرئ القيس ، حيث عزم على قتال بني أسد بعد قتلهم أباه حجرا ، فقصد ذا الخلصة ـ صنم خثعم ـ واستقسم عنده بالأزلام فخرج له النّاهي فكسر الأزلام وقال :
لو كنت يا ذا الخلص الموتورا |
|
مثلي وكان شيخك المقبورا |
لم تنه عن قتل العداة زورا
ثمّ جاء الإسلام فنعى عليهم أعمالهم الفاسدة ، وأسمعهم قوارع القرآن فحينئذ تصدّوا للاعتذار. وقد علم من السّياق تشنيع معذرتهم وفساد حجّتهم.
ودلّت الآية على إنكار ما كان مماثلا لهذا الاستدلال وهو كلّ دليل توكأ على اتّباع الآباء في الأمور الظّاهر فسادها وفحشها ، وكلّ دليل استند إلى ما لا قبل للمستدل بعلمه ، فإنّ قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) دعوى باطلة إذ لم يبلغهم أمر الله بذلك بواسطة مبلّغ ، فإنّهم كانوا ينكرون النّبوءة ، فمن أين لهم تلقي مراد الله تعالى.
وقد ردّ الله ذلك عليهم بقوله لرسوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) فأعرض عن ردّ قولهم : (وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا) لأنّه إن كان يراد ردّه من جهة التّكذيب فهم غير كاذبين في قولهم ، لأنّ آباءهم كانوا يأتون تلك الفواحش ، وإن كان يراد ردّه من جهة عدم صلاحيته للحجّة فإنّ ذلك ظاهر ، لأنّ الإنكار والنّهي ظاهر انتقالهما إلى آبائهم ، إذ ما جاز على المثل يجوز على المماثل ، فصار ردّ هذه المقدّمة من دليلهم بديهيا وكان أهمّ منه ردّ المقدّمة الكبرى ، وهي مناط الاستدلال ، أعني قولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها).
فقوله : (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) نقض لدعواهم أنّ الله أمرهم بها أي بتلك الفواحش ، وهو ردّ عليهم ، وتعليم لهم ، وإفاقة لهم من غرورهم ، لأنّ الله متّصف بالكمال