من الأوقات وما نحن فيه من النوع الثاني ، وسيأتي نظير هذا السؤال في سورة إبراهيم عليهالسلام في قوله تعالى : (أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) [الأعراف : ٨٨].
[٤٨٧] فإن قيل : كيف قال تعالى : (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠] فسر الأمر بالنهي أو بما جزؤه النهي وهما ضدان؟
قلنا : فيه إضمار أمر آخر تقديره أمر أمرا اقتضى أن لا تعبدوا إلا إياه وهو قوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) [العنكبوت : ٥٦] فإنه باعتبار تقديم المفعول في معنى الحصر كما قال في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥].
الثاني : أن فيه إضمار نهي تقديره : أمر ونهي ، ثم فسر الأمرين بقوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠].
الثالث : أن قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا) [يوسف : ٤٠] وإن كان مضادا للأمر من حيث اللفظ فهو موافق له من حيث المعنى ، فلم قلتم إن تفسير الشيء بما يضاده صورة ، ويوافقه معنى غير جائز. وبيان موافقته معنى من وجهين :
أحدهما : أن النهي عن الشيء أمر بضده ، وعبادة الله ضد عبادة غير الله.
الثاني : أن معنى مجموع قوله تعالى : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [يوسف : ٤٠] اعبدوه وحده فيكون تفسيرا للأمر المطلق بفرد من أفراده وأنه جائز.
[٤٨٨] فإن قيل : الأنبياء عليهمالسلام أعظم الناس زهدا في الدّنيا ورغبة في الآخرة ، فكيف قال يوسف ، عليهالسلام : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) [يوسف : ٥٥] ؛ طلب أن يكون معتمدا على الخزائن متوليا لها وهو من أكبر مناصب الدنيا؟
قلنا : إنما طلب ذلك ليتوصل به إلى إمضاء أحكام الله تعالى وإقامة الحق وبسط العدل ونحوه مما يبعث له الأنبياء ، ولعلمه أن أحدا غيره لا يقوم مقامه في ذلك ، فطلب التولية ابتغاء لوجه الله تعالى وسعيا لمنافع العباد ومصالحهم لهم لا لحب الملك والدنيا ، ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) [الأعراف : ١٨٨] يعني لو كنت أعلم أي وقت يكون القحط لادّخرت لزمن القحط طعاما كثيرا ، لا للحرص ؛ لكن لأتمكن من إعانة الضعفاء والفقراء وقت الضرورة والمضايقة ، ويحتمل أن يكون علم تعينه بذلك العمل فكان طلبه واجبا عليه.
[٤٨٩] فإن قيل : كيف جاز ليوسف عليهالسلام ، أن يأمر المؤذّن أن يقول : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) [يوسف : ٧٠] وذلك بهتان وتسريق بالصّواع لمن لم يسرقه ، وتكذيب للبريء واتهام من لم يسرق بأنه سرق؟
قلنا قوله : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) تورية عما جرى منهم مجرى السرقة ، وتصور بصورتها ، من فعلهم بيوسف ما فعلوه أولا.