الثاني : أن ذلك القول كان من المؤذن بغير أمر يوسف عليهالسلام ، كذا قاله بعض المفسرين.
الثالث : أن حكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى مصالح ومنافع دينية ، كقوله تعالى لأيوب عليهالسلام : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] وقول إبراهيم ، عليهالسلام ، في حق زوجته هي أختي لتسلم من يد الكافر ، وما أشبه ذلك.
[٤٩٠] فإن قيل : كيف تأسف يعقوب عليهالسلام على يوسف دون أخيه بقوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) [يوسف : ٨٤] والرزء الأحدث أشد على النفس وأعظم أثرا؟
قلنا : إنما يكون أشد إذا تساوت المصيبتان في العظم ولم يتساويا هنا ، بل فقد يوسف كان أعظم عليه وأشد من فقد أخيه ، فإنما خصه بالذكر ليدل على أن الرزء فيه مع تقادم عهده ما زال غضا طريا.
[٤٩١] فإن قيل : كيف قال تعالى : (وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ) [يوسف : ٨٤] والحزن لا يحدث بياض العين لا طبا ولا عرفا؟
قلنا : قال ابن عباس ، أي من البكاء ؛ لأن الحزن سبب البكاء ، فأطلق اسم السبب وأراد به المسبب. وكثرة البكاء قد تحدث بياضا في العين يغشى السواد ، وهكذا حدث ليعقوب عليهالسلام.
وقيل : إذا كثرت الدموع محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر.
[٤٩٢] فإن قيل : كيف قال يعقوب عليهالسلام : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) [يوسف : ٨٧] مع أن من المؤمنين من ييأس من روح الله ، أي من فرجه وتنفيسه أو من رحمته ، على اختلاف القولين ؛ إما لشدة مصيبته أو لكثرة ذنوبه ، كما جاء في الحديث في قصة الذي أمر أهله إذا مات أن يحرقوه ويذروا رماده في البر والبحر ففعلوا به ذلك ، ثم إن الله غفر له كما جاء مشروحا في الحديث المشهور ، وهو من الصحاح ؛ مع أنه يئس من رحمة الله تعالى ، وضم إلى يأسه ذنبا آخر وهو اعتقاده أنه إذا أحرق وذري رماده لا يقدر الله على إحيائه وتعذيبه ، ومع هذا كله يغفر له ، فدلّ على أنه لم يمت كافرا؟
قلنا : إنما ييأس من روح الله الكافر لا المسلم عملا بظاهر الآية ، وكل مؤمن يتحقق منه اليأس من روح الله فهو كافر في الحال حتى يعود إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح الله ، وأما الرّجل المغفور له في الحديث فلا نسلم أنه لم يكفر ، ثم إن الله تعالى لما أحياه في الدنيا عاد إلى الإسلام بعوده إلى رجاء روح الله تعالى فلذلك غفر له ، وقد يكون قد عاد إلى رجاء روح الله تعالى قبل موتته الأولى ، ولم يتسع له الزمان