الثاني : أنه دعا بذلك مع علمه إظهارا للعبودية والافتقار وشدة الرغبة في طلب سعادة الخاتمة وتعليما للأمة وطلبا للثواب.
[٤٩٦] فإن قلنا : كيف يجتمع الإيمان والشرك وهما ضدان ؛ حتّى قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ١٠٦]؟
قلنا : معناه وما يؤمن أكثرهم بأن الله تعالى خالقه ورازقه وخالق السموات والأرض قولا إلا وهو مشرك بعبادة الأصنام فعلا.
الثاني : أن المراد بها المنافقون يؤمنون بألسنتهم قولا ويشركون بقلوبهم اعتقادا.
الثالث : أن المراد بها تلبية العرب ، كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ؛ فكانوا يؤمنون بأول تلبيتهم بنفي الشريك ، ويشركون بآخرها بإثباته.
[٤٩٧] فإن قيل : هذه التلبية توحيد كلها ولا شرك فيها ؛ لأن معنى قولهم إلّا شريكا هو لك : إلا شريكا هو مملوك لك موصوفا بأنك تملكه وتملك ما ملك ، واللام هنا للملك لا لعلاقة الشركة ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون حقيقيا ويحتمل أن يكون مجازيا ، بيان الأول أنا إن قلنا إن اللام حقيقة في المعنى العام في مواردها وهو الاختصاص يكون قولهم : لا شريك لك ، عاما في نفي كل شريك يضاف إلى الله تعالى بجهة اختصاص ما ، فيدخل في النفي من جهة لفظ الشريك المضاف بجهة المملوكية ، وهو شريك زيد وعمرو ونحوهما ثم يقطع عليه الاستثناء فيكون استثناء حقيقيا ، وإن قلنا إنها مشتركة بين المعاني الثلاثة الموجودة في موارد استعمالها وهي الملك والاستحقاق ، ويقال الاختصاص والعلية ، فقولهم : لا شريك لك يكون عاما أيضا عند من يجوز حمل المشترك على مفهومه في حالة واحدة فيكون الاستثناء أيضا حقيقيا كما مر ، وأما على قول من لا يجوّز ذلك يكون النفي واردا على أحد مفهوماته وهو علاقة الشركة ، فيكون الاستثناء بعده مجازيا ، من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم ، وهو نوع من أنواع البلاغة مذكور في علم البيان ، وشاهده قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم |
|
بهنّ فلول من قراع الكتائب |
معناه : إن كان هذا عيبا ففيهم عيب ، وهذا ليس بعيب فلا يكون فيهم عيب ، فكذا هنا ، معناه : إن كان الشريك المملوك لك يصلح شريكا فلك شريك ، وهو لا يصلح شريكا لك ، فلا يكون لك شريك ؛ لأنّ كل ما يدّعى أنه شريك لك فهو مملوك
__________________
[٤٩٧] البيت للنابغة الذبياني وهو في ديوانه : ٤٤. وانظر البصائر ٢ / ٤٣٢ ، من قصيدة له في مدح الحارث الأصغر.