قلنا : المراد بقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] ، أي ناسخات. (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، أي منسوخات.
وقيل : المحكمات : العقليات ؛ والمتشابهات : الشرعيات.
وقيل : المحكمات : ما ظهر معناها ؛ والمتشابهات : ما كان في معناها غموض ودقة.
والمراد بقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) [هود : ١] أنّ جميع القرآن صحيح ثابت ، مصون عن الخلل والزّلل فلا تنافي.
[٩٠] فإن قيل : كيف قال ، هنا : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧] ، جعل بعضه متشابها وقال ، في موضع آخر : (كِتاباً مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، وصفه كله بكونه متشابها؟
قلنا : المراد بقوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) ما سبق ذكره ، والمراد بقوله : (كِتاباً مُتَشابِهاً) أنّه يشبه بعضه بعضا ، في الصحة ، وعدم التّناقض ، وتأييد بعضه بعضا ؛ فلا تنافي.
[٩١] فإن قيل : ما فائدة إنزال المتشابهات ، بالمعنى الأخير ؛ والمقصود من إنزال القرآن إنّما هو البيان والهدى ؛ والغموض والدّقة في المعاني ينافي هذا المقصود ، أو يبعده؟
قلنا : لما كان كلام العرب ينقسم إلى ما يفهم معناه سريعا ، ولا يحتمل غير ظاهره ، وإلى ما هو مجاز وكناية وإشارة وتلويح ، والمعاني فيه متعارضة متزاحمة ، وهذا القسم هو المستحسن عندهم والمستبدع في كلامهم ، نزل القرآن بالنّوعين تحقيقا لمعنى الإعجاز ، كأنه قال : عارضوه بأي النوعين شئتم فإنه جامع لهما. وأنزله الله ، عزوجل ، محكما ومتشابها ، ليختبر من يؤمن بكلّه ، ويردّ علم ما تشابه منه إلى الله ، فيثيبه ، ومن يرتاب فيه ويشكّ ، وهو المنافق ، فيعاقبه ؛ كما ابتلى عباده بنهر طالوت وغيره. أو أراد أن يشتغل العلماء بردّ المتشابه إلى المحكم بالنّظر والاستدلال والبحث والاجتهاد ؛ فيثابون على هذه العبادة. ولو كان كلّه ظاهرا جليّا ، لاستوى فيه العلماء والجهال ؛ ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستنباط ؛ فإنّ نار الفكر إنّما تقدح بزناد المشكلات. ولهذا قال بعض الحكماء : عيب الغنى أنه يورث البلادة ويميت الخاطر ؛ وفضيلة الفقر أنّه يبعث على إعمال الفكر ، واستنباط الحيل ، في الكسب.
[٩٢] فإن قيل : قوله تعالى : (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، أي ترى الفئة الكافرة الفئة المسلمة مثلي عدد نفسها ؛ أو بالعكس ، على اختلاف القولين ؛ وكيفما كان ، فهو مناف لقوله تعالى ، في سورة الأنفال : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ