قلنا : المراد حثه على تبليغ ما أنزل عليه من معايب اليهود ومثالبهم. فالمعنى بلغ الجميع ، فإن كتمت منه حرفا كنت في الإثم والمخالفة كمن لم يبلغ شيئا البتة ، فجعل كتمان البعض ككتمان الكل.
وقيل : أمر بتعجيل التبليغ كأنه صلىاللهعليهوسلم كان عازما على تبليغ جميع ما نزل إليه ، إلا أنه أخر تبليغ البعض خوفا على نفسه وحذرا ؛ مع عزمه على تبليغه في ثاني الحال ، فأمر بتعجيل التبليغ ، يؤيد هذا القول قوله تعالى : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].
[٢٤٥] فإن قيل : كيف ضمن الله تعالى لرسوله العصمة بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ثم إنه شجّ وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟
قلنا : المراد به العصمة من القتل لا من جميع الأذى ، فإن جميع العصمة من جميع المكاره لا تناسب أخلاق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؛ لأنهم جامعون مكارم الأخلاق ومن أشرف مكارم الأخلاق تحمّل الأذى.
الثاني : أن هذه الآية نزلت بعد أحد ؛ لأن سورة المائدة من آخر ما نزلت من القرآن.
[٢٤٦] فإن قيل : كيف قال : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) [البقرة : ٢٧٠] ؛ مع أن بعض الظالمين وهم العصاة من المؤمنين يشفع فيهم النبيّ صلىاللهعليهوسلم يوم القيامة فيكون ناصرا لهم؟
قلنا : المراد بالظالمين هنا المشركون ، يعلم ذلك من أول الآية ووسطها.
[٢٤٧] فإن قيل : ما فائدة قوله تعالى : (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة :
٧٧] ، بعد قوله : (قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) [المائدة : ٧٧]؟
قلنا : المراد بالضلال الأول ضلالهم عن الإنجيل ، وبالضلال الثاني ضلالهم عن القرآن.
[٢٤٨] فإن قيل : قوله تعالى : (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) [المائدة :
٧٩] والنهي عن المنكر بعد فعله ووقوعه لا معنى له؟
قلنا : فيه إضمار حذف مضاف تقديره : كانوا لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه ، أو عن منكر أرادوا فعله ، كما يرى الإنسان أمارات الخوض في الفسق وآلاته تسوّى وتهيّأ فينكر ، ويجوز أن يريد بقوله : (لا يَتَناهَوْنَ) لا ينتهون ولا يمتنعون عن منكر فعلوه ، بل يصرون عليه ويداومون ، يقال : تناهى عن الأمر وانتهى عنه بمعنى واحد : أي امتنع عنه وتركه.
[٢٤٩] فإن قيل : كيف قال : (وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [المائدة : ٨١] والمراد بقوله منهم المنافقون أو اليهود على اختلاف القولين وكلهم فاسقون؟
قلنا : المراد به فسقهم بموالاة المشركين ودسّ الأخبار إليهم لا مطلق الفسق ، وذلك الفسق الخاص مخصوص بكثير منهم ، وهم المذكورون في أوّل الآية في قوله :