السبب الذي جعل العلماء ينصرفون عن تفسير قسمي «الآلاء والأخلاق» من القرآن تفسيرا علميا هو أنهم : (كانوا يخافون مخالفة رأي بعض السلف القاصرين في العلم ، فيكفرون فيقتلون ، وهذه مسألة إعجاز القرآن وهي أهم مسألة في الدين ، لم يقدروا أن يوفوها حقها من البحث ، واقتصروا على ما قاله بعض السلف قولا مجملا من أنها قصور الطاقة عن الإتيان بمثله في فصاحته وبلاغته ، وأخباره عن أن الروم من بعد غلبهم سيغلبون ، مع أنه لو أطلق للعلماء عنان التدقيق وحرية الرأي والتأليف كما أطلق لأهل التأويل والخرافات ، لرأوا في ألوف من آيات القرآن ألوف آيات من الإعجاز لرأوا فيه كل يوم آية تتجدد مع الزمان والحدثان تبرهن إعجازه بصدق قوله سبحانه وتعالى : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١) برهان عيان لا مجرد تسليم وإيمان) (٢).
ثم يبدأ بسرد طائفة من الآيات القرآنية ، ويحللها ويفسرها تفسيرا علميا فيقول : (ومثال ذلك أن العلم كشف في هذه القرون الأخيرة حقائق وطبائع كثيرة ، تعزى لكاشفيها ومخترعيها من علماء أوروبا وأمريكا ، والمدقق في القرآن يجد أكثرها ورد التصريح أو التلميح به في القرآن منذ ثلاثة عشر قرنا ، وما بقيت مستورة تحت غشاء من الخفاء إلا لتكون عند ظهورها معجزة للقرآن ، شاهدة بأنه كلام رب لا يعلم الغيب سواه ، وذلك أنهم قد كشفوا أن مادة الكون هي الأثير ، وقد وصف القرآن بدء التكوين فقال : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٣) وكشفوا أن الكائنات في حركة دائمة دائبة والقرآن يقول : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤) وحققوا أن الأرض منفتقة في النظام الشمسي والقرآن يقول : (السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) (٥) وحقّقوا أن القمر منشق من الأرض ، والقرآن يقول : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (٦) ... وحققوا أن طبقات الأرض سبع والقرآن يقول : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) (٧) وكشفوا
__________________
(١) سورة الأنعام ، الآية : ٥٩.
(٢) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد ، عبد الرحمن الكواكبي ، بيروت ، دار النفائس ، الطبعة الأولى ، ١٩٨٤ ، ص ٤٧.
(٣) سورة فصلت الآية : ١١.
(٤) سورة يس ، الآية : ٤٠.
(٥) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٠.
(٦) سورة القمر ، الآية : ١.
(٧) سورة الطلاق ، الآية : ١٢.