هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل الخلق حسب تصوير القرآن لذلك ، فالمرحلة الأولى كانت مرحلة تفجير الكتلة الدخانية «الرتق والفتق» والمرحلة الثانية كانت مرحلة خلق الأرض لكنها غير مدحوة ، وتسوية السموات وتشكيلها ، ثم جاءت المرحلة الثالثة التي هي مرحلة دحي الأرض.
لكن قد يستشكل أحدنا أو يجول في خاطره سؤال مفاده ، أيهما خلق أولا السموات أم الأرض؟ ففي الآية السابقة عرفنا بنص قرآني واضح وصريح أن الأرض خلقت قبل السماء (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١)) (١) وهنا نجد أن الحق يخبرنا أن الأرض خلقت بعد السماء (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي بعد خلق السموات ، فكيف يكون ذلك؟.
إن الجواب على هذا السؤال أو الاستشكال سهل للغاية ، وقد عرض هذا السؤال على ابن عباس رضي الله عنه وأجاب عليه ، كما ورد في صحيح البخاري : (قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ... قال تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) إلى قوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) فذكر خلق السماء قبل الأرض ، ثم قال تعالى : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ ...) فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ... فقال ابن عباس رضي الله عنهما : خلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ، ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحى الأرض ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى ، وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله تعالى : (دَحاها) وقوله : (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام ، وخلق السموات في يومين ... فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله عزوجل) (٢).
وعلى هذا النسق سار المفسرون ، ففي إرشاد العقل السليم : (فهي وما في سورة البقرة من قوله سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
__________________
(١) سورة فصلت ، الآيات ٩ ـ ١١.
(٢) رواه البخاري ، باب التفسير ، رقم : (٤٥٣٧) ، ٤ / ١٨١٥.