الذي ضمّ بين دفتيه آيات وسورا كثيرة ، وما انطوت عليه هذه السور من أحكام الحلال والحرام ، وقصص الأقوام الغابرة ، وسبل ترسيخ العقيدة في النفوس ، ومعالم الآداب والأخلاق الرفيعة ...
كل ذلك ذكر في القرآن الكريم بدقة بالغة ، وحكمة عالية ووضوح لا يعتريه لبس ، وإحكام لا يتسرب إليه تناقض قال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).
وفي موضع آخر يوضح الحق سفور جهلهم ، وشدة مغالطتهم لأنفسهم وإنكارهم لواقعهم وماضيهم ، وذلك من خلال توصيدهم أبواب الزمن أمام أربعين سنة عاشها رسول الله بين ظهرانيهم والجميع موقن أنه أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فأنى له هذا القرآن؟ (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٢).
يا سبحان الله ، لقد كان بوسعه صلىاللهعليهوسلم أن لا يتلوه عليهم ولا يقرأ شيئا منه إن كان من عنده ، ولكنه وحي من عند الله تبارك وتعالى ، ينبغي أن يبلغه ، ويجب عليه أن يبين لهم أحكامه وتوجيهاته كما أنزلت ، وكما نصّ عليها الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
(لقد شعروا بعجزهم في قرارة أنفسهم عند ما دعوا إلى معارضة القرآن والإتيان بمثله ، ولكنهم عاندوا واستكبروا ولم يستجيبوا لنداء العقل وأحاسيس الفطرة التي يستشعرونها في داخلهم ، وقالوا عند سماع آيات القرآن تقرع مسامعهم وتتحداهم) (٣)؟ (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (٤).
(وهذا كما ترى غاية المكابرة ، ونهاية العناد ، وكيف لا ، ولو استطاعوا شيئا من ذلك فما الذي كان يمنعهم من المشيئة ، وقد تحدوا عشر سنين وقرعوا على العجز
__________________
(١) سورة النساء ، الآية : ٨٢.
(٢) سورة يونس ، الآية : ١٦.
(٣) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص ٣٢ ، وانظر : مباحث في علوم القرآن ، د.
صبحي الصالح ، بيروت ، دار العلم للملايين ، الطبعة العشرون ، ١٩٩٧ م ، ص : ٣١٣.
(٤) سورة الأنفال ، الآية : ٣١.