وسلامه عليه ويثبت عظمة القرآن ، ولقطع (دابر وساوس الشيطان ونزغات أهل الباطن المرجفين ، ولكي لا يقال إن محمدا تحدى أهل مكة ، والأميّة فاشية فيهم ، ولا علم لهم بعلوم الأديان وبالأنبياء والكتب ، ولو أنه تحدى غيرهم لأمكنهم أن يأتوا بمثل قرآنه ، كرر في المرحلة المدنية وبين ظهراني أهل الكتاب ، وسجل العجز المطلق لكل المخلوقين إلى يوم القيامة ، ولا زالت أصداؤه في أذن الزمن على مرّ العصور ليبرهن على خلود الرسالة وصدق صاحبها) (١) (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) (٢).
إنه تحدّ بعد تحد ، ومن جرّاء تكرار هذا التحدي طبع الحق عزوجل عليهم طابع العجز والقصور ، ليحولهم إلى كتلة من الذل والصغار ، هيا شمّروا عن ساعد الجد والعنفوان ، بكل وسائلكم وحيلكم ، واستعينوا بمن شئتم وكيفما شئتم ، وأتوا بسورة تماثل هذا الكلام الإلهي الأخّاذ.
يقول رشيد رضا في هذا المقام : (يا أيها الناس عليكم بعد أن تنسلوا من مضايق الوساوس وتتسللوا من مآزق الهواجس ، وتنزعوا ما طوقكم به التقليد من القلائد وتكسروا مقاطر ما ورثتم من العوائد ، أن تهرعوا إلى الحق فتطلبوه ببرهانه ، وأن تبادروا إلى ما دعيتم إليه فتأخذوه بربانه ، فإن خفي عليكم الحق بذاته ، فهذه آية من أظهر آياته وهي عجزكم عن الإتيان بسورة من مثل سور القرآن من رجل أمي مثل الذي جاءكم به ، وهو عبدنا ورسولنا محمد صلىاللهعليهوسلم ، وإن عجزتم عن الإتيان بسورة من مثله تساوي سورة في هدايتها ، وتضارعها في أسلوبها وبلاغتها ، وأنتم فرسان البلاغة وعصركم أرقى عصور الفصاحة ، وقد اشتهر كثير منكم بالسبق في هذا الميدان ، ولم يكن محمد صلىاللهعليهوسلم ممن يسابقكم من قبل هذا البرهان ، لأنه لم يؤت هذا الاستعداد بنفسه ولم يتمرن عليه أو يتكلفه لمباراة أهله ، فاعلموا أن ما جاء به بعد أربعين سنة فأعجزكم بعد سبقكم ، لم يكن إلا بوحي إلهي وإمداد سماوي لم يسم عقله إلى علمه ، ولا بيانه إلى أسلوبه ونظمه) (٣).
__________________
(١) مباحث في إعجاز القرآن ، مصطفى مسلم ، ص : ٣٤.
(٢) سورة البقرة ، الآيتان ٢٣. ٢٤.
(٣) تفسير المنار ، رشيد رضا ، ١ / ١٩١.