وبعد هذا التحدي العظيم الذي قصم الظهور ، وأذلّ الأعناق ، ما استطاع أحد منهم أن يتجرأ أو يتلفّظ بسورة تشابه كلام الله تعالى ، بل راحوا يتساقطون وينهزمون ، بعجز سافر وضعف ذليل ، لقد مدّ اليأس سلطانه على نفوسهم ، وامتلأت أقطار نفوسهم بالإحباط والفشل ، ورأوا أنفسهم ذرة أمام قلعة شماء شامخة ، إنها قلعة البيان وصرح القرآن ، إنه المعجزة الخالدة على مرّ العصور والأزمان ، إنه كلام الله.
تلك هي مراحل التحدي ، ولقد أشار الحافظ ابن كثير إلى ترتيبها ، على النحو الذي ذكرنا عند تفسيره لقوله سبحانه وتعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١) يقول : (فأتوا أنتم بسورة من مثله ، أي من جنس هذا القرآن واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجن ، وهذا هو المقام الثالث في التحدّي ، فإنه تعالى تحدّاهم ودعاهم ، إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد ، فليعارضوه ، بنظير ما جاء به وحده وليستعينوا بمن شاءوا ، وأخيرا أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه فقال سبحانه تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٢) ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه فقال في أول سورة هود : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣).
ثم تنازل إلى سورة فقال في هذه السورة (٤) : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٥).
رأينا من خلال هذا العرض ، عظمة القرآن وهو يتحدّى العرب ، وكيف أنه يطاولهم في المعارضة ثم إنه قد تنازل لهم في تحديهم بجميع القرآن إلى التحدي بعشر سور مثله ، ومن ثم إلى التحدي ولو بسورة واحدة ، وهم مع ذلك يتقلبون في أطوار كليلة هزيلة من عجز إلى عجز ومن نكص إلى نكص ، والقرآن يتألق في كل مرحلة وينتقل من فوز إلى فوز ، ومن ألق إلى ألق.
__________________
(١) سورة يونس ، الآية : ٣٨.
(٢) سورة الإسراء ، الآية : ٨٨.
(٣) سورة هود ، الآية : ١٣.
(٤) تفسير القرآن العظيم ، لابن كثير ٤ / ٣٠٤ ، وانظر : لوامع الأنوار البهية ، محمد السفاريني الحنبلي ، بيروت ، المكتب الإسلامي ، الطبعة الثالثة ، ١٤١١ ه / ١٩٩١ ، ١ / ١٧٠.
(٥) سورة يونس ، الآية : ٣٨.