وكأني بالقرآن يهتف وينادي أصحاب النهى والعقول فيقول لهم : فكّروا في شأن هذا النبي الأمي الذي جاءكم بهذا الكتاب المعجز ، أيعقل أن يكون هذا الكتاب من صنعه وتأليفه؟ وهو لم يتتلمذ على يد أحد ، ولم يقرأ كتابا ، ولا خطّ بيده حرفا ، ثم جاءكم بكتاب حوى العجائب من علوم ، وفنون ، وقصص ، وأخبار ، وأمور غيبيّة ، وأخبركم عن مكتشفات لم تعرفوا عنها شيئا إلّا في عصركم هذا ، أفلا يكون ذلك أعظم برهان على عظمته وصدقه!؟
تصوروا أن عشرة أطباء اجتمعوا على تشخيص داء مريض ، وكلّ منهم نابغة في تخصصه ، وعجزوا جميعا عن معرفة المرض ، ووصف العلاج والدواء له! وجاءهم رجل من البادية ، لا يعرف شيئا عن الطب ، ولم يمارس هذه الصنعة مطلقا ، وبمجرد إلقاء نظرة على المريض ، ووضع يده على جسده ، عرف المرض ووصف له الدواء ، وشفي المريض بتناول العلاج الذي عجز عن معرفته كبار الأطباء ، أليس هذا الأمر يدعو إلى الدهشة؟ والإجلال والإكبار لهذا الذي وصل إليه نبوغ هذا الرجل ، والإقرار له بالحذاقة وقوة المعرفة!؟
هذا هو مثل خاتم الأنبياء مع كبار الأطباء!! أتاهم بعلوم ومعارف قبل أربعة عشر قرنا من الزمان ، لم يصلوا إلى معرفة بعضها إلا في هذا العصر ، عصر ظهور (المخترعات والمكتشفات).
وحين طلب المشركون من سيد الخلق معجزة تدلّ على صدقه ، جاء القرآن يقرّعهم ويوبّخهم على تركهم التدبر لآيات هذا الكتاب الحكيم الذي جاءهم به نبي أمّي من عند الرحمن ، بأفصح حجة وأوضح بيان ، فقال جلّ ثناؤه : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (١).
نبي أمّي جاءكم بكتاب جمع شتات العلوم ، وكشف لهم عن حقائق علمية ما عرفها البشر إلّا منذ زمن قريب ، وقال لهم : إن معجزتي إليكم هذا الكتاب المبين ، فاتوا بمثل سورة واحدة منه إن كنتم صادقين.
ألا يكفي هذا أن يكون برهانا قاطعا ساطعا على صدق دعواه؟
لقد بهر القرآن العرب برونقه وجماله وعذوبته وحلاوته وبذلك الأسلوب الرائع الخلاب!
__________________
(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٥١.