القرآن لم يبعد كثيرا عن فصيح الكلام المختار من كلام العرب ، وأن العرب عند ما عجزوا عن الإتيان بمثله ، كان ذلك راجعا إلى أنهم سلبوا العلوم التي كانوا يتمكنون بها من معارضته ...
يقول الخفاجي وهو يردّ على أبي الحسن الرماني الذي يرى أن إعجاز القرآن راجع إلى بلاغته وفصاحته وتلاؤم نظمه ... يقول : (ولا فرق بين القرآن وبين فصيح الكلام في هذه القضية ، ومتى رجع الإنسان إلى نفسه وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار ، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه ، ولعل أبا الحسن الرماني يتخيل أن الإعجاز في القرآن لا يتم إلا بمثل هذه الدعوى الفاسدة ... ثم يعلن القول بالصرفة فيقول : وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز القرآن صرف العرب عن معارضته ، بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمكّنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك) (١).
وقد زعم السفاريني أن القاضي عياض له ميل إلى القول بالصرفة فقال : (قلت : وفي شفاء أبي الفضل القاضي عياض بعض ميل للقول بالصرفة ، فإنه قال : وذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري إلى أنه مما يمكن أن يدخل مثله تحت مقدور البشر ، ويقدرهم الله عليه ، ولكنه لم يكن هذا ، ولا يكون فمنعهم الله هذا وعجزهم عنه) (٢).
والحق أن القاضي عياض لم يمل إلى الصرفة ، لا من قريب ولا من بعيد ، وإنما استعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز ، سواء من أثبت الصرفة أو من نفاها ، ثم إننا نجده قد بسط الحديث في إعجاز القرآن ، وتحديه للعرب وللناس جميعا ، وذكر آيات التحدي تباعا وأوضح بإسهاب خصائص اللغة العربية ، وما كان عليه العرب من فصاحة وبلاغة وبيان ومع كل هذا ، والقرآن يتحداهم ، نجدهم عاجزين ناكصين ... وهذا ما قاله القاضي عياض وهو يعرض أقوال العلماء في وجوه الإعجاز يقول : (وقد اختلف أئمة أهل السنة في وجه عجزهم عنه ، فأكثرهم يقول : إنه ما جمع في قوة جزالته ونصاعة ألفاظه ، وحسن نظمه ، وإيجازه ، وبديع تأليفه وأسلوبه لا يصح أن يكون في مقدور البشر وأنه من باب الخوارق الممتنعة عن إقدار الخلق عليها ، كإحياء الموتى ،
__________________
(١) سر الفصاحة ، عبد الله بن سنان الخفاجي الحلبي ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، الطبعة الأولى ، ١٤٠ ه / ١٩٨٢ ، ص ٩٩ ـ ١٠٠.
(٢) لوامع الأنوار البهية ، للسفاريني ، ١ / ١٧٥.