كذلك فإن الآية الثانية والثالثة ، تدلان على أن القرآن معجز بذاته لا بغيره ، وذلك لأن الله جل جلاله أودع فيه من المزايا والصفات السامية ، التي لا يمكن أن يصل إلى مستواها طوق أحد من الخلق ليعارضها وليجاريها ، ومن هنا كان التحدي بالقرآن نفسه ونستبين ذلك من أن القرآن سلسل آيات التحدي لهم ، وسفّه عقولهم وأثار حميتهم ، فلو كان الإعجاز بالصرفة ، لما عرض آيات التحدي ، إنما كان يكفيه أن يقول لهم : إن دليل صدقي هو منعكم عن المعارضة ، فالمعجزة تكون نفس المنع عن المعارضة وليس القرآن ولكننا نجد أن الحق عرض آيات التحدي تباعا بصورة جازمة على أن المتحدى به هو القرآن ذاته ، وأنه المعجز لمزايا أودعها في ذاته ، وليست هذه الصفات خاصة عنه.
٢ ـ وردت آيات كثيرة تدل على أن القرآن معجز بذاته ، وذلك بسبب قوة تأثيره في النفوس وهيمنته على الأفئدة ، ومن أجل هذا كان الكفرة يهمس بعضهم في البعض لئلا يصغوا إلى القرآن حتى لا يسحرهم جماله وبيانه ، قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (١) كما أن القرآن كان له تأثير عجيب في نفوس المسلمين الخاشعين وإلى هذا يشير مولانا تبارك وتعالى : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢). يقول الشيخ محمد أبو زهرة : (إن العرب عند ما تلقوا القرآن راعهم بيانه ، وأثار إعجابهم أسلوبه وعباراته ، وقالوا : ما رأينا مثله شعرا ولا نثرا ، فكان العجز لذاته ، لا لشيء خارج عنه ، وما لنا نفترض ما لم يقولوا ، وما لم يفعلوا ، وما لم يقدروا ، إلا أن يكون ذلك تمويها وإنكارا للواقع المستقر بفرض وهميّ ... وأيضا فإنه لو كان العجز لأمر خارجي لا لأمر ذاتي فيه ، بأن تكون عندهم القدرة على أن يأتوا بمثله ولكن صرفوا ، فإن ذلك يقتضي أن يثبت أولا أنهم قادرون على مثله ، وهم أولا قد نفوا ذلك عن قدرهم ، وليس لنا أن نفرض لهم قدرة قد نفوها عن أنفسهم ، ولو كانوا قادرين لكان من كلامهم قبل نزول القرآن عليهم وما يكون متماثلا في نسقه ونسجه ، ولهم مثل رنينه وصوره البيانية في شعر
__________________
(١) سورة فصلت ، الآية : ٢٦.
(٢) سورة الزمر ، الآية : ٢٣.