(أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ) ولقد أتى بالاستفهام الانكارىّ وبالأحد للعموم وبأكل لحم الميّت من الأخ وبتأكيد مفهوم نفى الحبّ بعطف كرهتموه للمبالغة البالغة في النّهى عن الغيبة وتمثيل الغيبة بأكل لحم الميتة لانّ الأسماء قوالب المسميّات ولا حكم لها على حيالها ، ومن ذكر مؤمنا بسوء لا يكون ذلك منه الّا بتخلية المؤمن عن لطيفة ايمانه فذكره على لسانه وسماعه بسمعه بمنزلة لحمه الخالي عن الرّوح الممضوغ بفمه والدّاخل في جوفه فانّ دخوله في جوفه من طريق سمعه كدخوله في جوفه من طريق حلقه ، ولذلك ورد انّ السّامع للغيبة شريك المغتاب (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تغتابوا وتوبوا ان اغتبتم ، ولمّا كان في جبلّة الإنسان رؤية العيب من الغير وذكر ما رآه على لسانه وقد بالغ تعالى في ذمّ الغيبة والنّهى عنه وكان ذلك مورثا ليأس أغلب النّاس عن رحمته تعالى قال : (إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) بعد ذلك ترجيحا لجانب الرّجاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ) هذا الّذى يأتى تأكيد للنّواهى السّابقة وتعليل لها (إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى) يعنى من هذين الجنسين أو من آدم وحوّاء (ع) (وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ) الشّعوب للعجم كالقبائل للعرب ، وقيل : الشّعب بفتح الشّين الجمع العظيم المنتسبون الى أصل واحد وهو يجمع القبائل ، والقبيلة تجمع العمائر ، والعمارة تجمع البطون ، والبطن يجمع الأفخاذ ، والفخذ يجمع الفصائل ، والأقل من الكلّ الفصيلة ، فخزيمة شعب ، وكنانة قبيلة ، وقريش عمارة ، وقصىّ بطن ، وهاشم فخذ ، وعبّاس فصيلة (لِتَعارَفُوا) لا ان تفاخروا وتنابزوا وتلمزوا وتسخروا وتغتابوا (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فليست الكرامة والشّرف بالنّسب والحسب والمال والجمال وكثرة الأولاد والخلوّ من العيوب (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمتّقى منكم والأتقى وبالشّقىّ والأشقى (خَبِيرٌ) بما لا يتعلّق علمكم به من بواطن أموركم وقدر استعدادكم واستحقاقكم (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا).
اعلم ، انّ الإسلام وهو الدّخول تحت احكام القالب يحصل بمحض الإقرار اللّسانىّ والبيعة العامّة النّبويّة ، ولذلك كانوا يدخلون النّاس في الإسلام بالبيعة العامّة بالتّخويف والسّيف والقتل والاجلاء والأسر والنّهب وهو في الحقيقة انقياد للسّلطنة الخلقيّة لا للحكومة الالهيّة ، فان كان مع ذلك اعتقاد بالحكومة الإلهيّة وانقياد في القلب كان الإسلام حقيقة وسمّوا مسلمين حقيقة والّا كانوا مسلمين ظاهرا لا حقيقة ، والايمان وهو الدّخول تحت احكام القلب يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وليس الّا انقياد القلب لمن آمن على يده ، وبعبارة اخرى الإسلام الحقيقىّ قبول الرّسالة كما انّ الإسلام الظّاهرىّ قبول احكام الرّسالة ، والايمان قبول احكام النّبوّة والولاية ، وبعبارة اخرى ، الإسلام قبول الدّعوة الظّاهرة ، والايمان قبول الدّعوة الباطنة ، وبعبارة اخرى الإسلام تحلّى الظّاهر بحلية الشّريعة ، والايمان تكيّف الباطن بكيفيّة الامام الّتى هي صورة نازلة منه ملكوتيّة تدخل قلب المؤمن وبها يكون فعليّته الاخيرة ، وبها تحصل الابوّة والبنوّة بين الامام والمؤمن ، وبها تحصل الأخوّة بين المؤمنين وهي الّتى إذا ظهرت على صدر المؤمن صارت سكينة وفكرا وحضورا وهي ظهور القائم (ع) في العالم الصّغير ، وبها تحصل المعرفة بالنّورانيّة وبها تشرق الأرض بنور ربّها ، ولمّا كانت الاعراب بمحض البيعة العامّة والدّخول تحت احكام القالب قالوا : آمنّا ، ولم يكونوا يؤمنون بالبيعة الخاصّة ولم يتكيّف قلوبهم بكيفيّة الامام ولم يتنزّل صورة الامام في قلوبهم فانّها لا تتنزّل الّا بالبيعة الخاصّة والاتّصال المعنوىّ بالإمام (ع) قال الله تعالى لنبيّه : قل لهم الايمان غير الإسلام والإسلام الظّاهرىّ الّذى هو الدّخول تحت السّلطنة بمحض البيعة العامّة غير الإسلام الحقيقىّ الّذى هو الانقياد تحت الحكومة الالهيّة بالبيعة العامّة فانف الايمان عنهم رأسا و (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ) اقتصروا في القول على ما هو المتيقّن من الدّخول تحت