____________________________________
ثم اعلم أن باب التكفير عظمت فيه المحنة والفتنة وكثر فيه الافتراق والمخالفة وتشتّت فيه الأهواء والآراء وتعارضت فيه دلائلهم وتناقضت فيه وسائلهم فالناس في جنس تكفير أهل المقالات الفاسدة والعقائد الكاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله تعالى به رسوله إلى الخلق على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية ، فطائفة تقول : لا نكفّر من أهل القبلة أحدا ، فتنفي التكفير نفيا عامّا مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسّنّة وإجماع الأمة ، وفيهم من قد يظهر بعد ذلك حيث يمكنهم وهم يتظاهرون بالشهادتين ، وأيضا فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرّمات الظاهرة المتواترة فإنه يستتاب فإن تاب فيها ، وإلا قتل كافرا مرتدّا والنفاق والردّة مظنتها البدع والفجور كما ذكر الخلال (١) في كتاب السّنّة بسنده إلى محمد بن سيرين (٢) أنه قال : إن أسرع الناس ردّة أهل الأهواء وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٣). ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنّا لا نكفّر أحدا بذنب ، بل يقال : إنّا لا نكفّرهم بكل ذنب كما يفعله الخوارج ، وفرّق بين النفي العام ونفي العموم ، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب ، وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأوّلا فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرّقون بين المجتهد المخطئ وغيره ، ويقولون بكفر كل مبتدع ، وهذا القول يقرب إلى مذهب الخوارج والمعتزلة فمن عيوب أهل البدعة أنه يكفّر بعضهم بعضا ، ومن ممادح أهل السّنّة والجماعة أنهم يخطئون ولا يكفّرون ، نعم من اعتقد أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، فهو كافر وإن عدّ قائله من أهل البدعة ، وكذا من قال : بأنه سبحانه جسم وله مكان ويمرّ عليه زمان ونحو ذلك كافر
__________________
(١) هو الإمام العلّامة الحافظ الفقيه ، شيخ الحنابلة ، وعالمهم ، أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون بن يزيد البغدادي ، الخلال ، المتوفّى سنة ٣١٠ ه. مترجم في سير أعلام النبلاء ١٤ / ٢٩٧.
(٢) هو الإمام شيخ الإسلام أبو بكر الأنصاري ، مولى أنس بن مالك ، حديثه مخرّج في الصحاح والسّنن والمسانيد كان ـ فيما وصفه ابن جرير الطبري ـ فقيها عالما ، ورعا ، أديبا ، كثير الحديث ، صدوقا شهد له أهل الفضل بذلك وهو حجّة ، توفي سنة ١١٠ ه. مترجم في سير أعلام النبلاء ٤ / ٦٠٦ و ٦٢٢.
(٣) الأنعام : ٦٨.