وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون كسبهم على الحقيقة والله تعالى خالقها ...
____________________________________
فضله وكرمه لا يعمل بمجرد تعلّق علمه بل لا بدّ من إظهار اختيار العبد وحصول عمله ليترتب عليه الحساب ويتفرّع عليه الثواب أو العقاب والله أعلم بالصواب.
(وجميع أفعال العباد من الحركة والسكون) أي على أيّ وجه يكون من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان (كسبهم على الحقيقة) أي لا على طريق المجاز في النسبة ، ولا على سبيل الإكراه والغلبة ، بل باختيارهم في فعلهم بحسب اختلاف أهوائهم وميل أنفسهم فلها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ، لا كما زعمت المعتزلة أن العبد خلق لأفعاله الاختيارية من الضرب والشتم وغير ذلك ، ولا كما زعمت الجبرية القائلون بنفي الكسب والاختيار بالكلية ففي قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (١). رد على الطائفتين في هذه القضية.
والحاصل أن الفرق بين الكسب والخلق هو أن الكسب أمر لا يستقل به الكاسب والخلق أمر يستقل به الخالق ، وقيل : ما وقع بآلة فهو كسب ، وما وقع لا بآلة فهو خلق ، ثم ما أوجده سبحانه من غير اقتران قدرة الله تعالى بقدرة العبد وإرادته يكون صفة له ، ولا يكن فعلا له كحركة المرتعش ، وما أوجده مقارنا لإيجاد قدرته واختياره فيوصف بكونه صفة وفعلا ، وكسبا للعبد كالحركات الاختيارية ، ثم المتولدات كالألم في المضروب والانكسار في الزجاج بخلق الله ، وعند المعتزلة بخلق العبد (والله تعالى خالقها) أي موجد أفعال العباد وفق ما أراد لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) أي ممكن بدلالة العقل وفعل العبد شيء ولقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٣). أي الذي يصدر منه حقيقة الخلق ليس كمن لا يصدر منه ذلك في شيء ، وهذا في مقام التمدّح بالخالقية وكونها سببا لاستحقاق العبادة ولقوله تعالى : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٤). أي وعملكم أو معمولكم.
وبه احتج أبو حنيفة رحمهالله على عمرو بن عبيد (٥) ، وفي حديث رواه الحاكم
__________________
(١) الفاتحة : ٥.
(٢) الأنعام : ١٠٢ ، والرعد : ١٦ ، والزّمر : ٦٢.
(٣) النحل : ١٧.
(٤) الصّافّات : ٩٦.
(٥) هو عمرو بن عبيد ، الزاهد العابد القدري ، كبير المعتزلة ، وأولهم ، أبو عثمان البصري. قال ابن علية : أول من تكلّم في الاعتزال واصل الغزال ، فدخل معه عمرو بن عبيد فأعجب به وزوّجه ـ