____________________________________
التي بها يؤدي ما يجب عليه من المعرفة والعبادة ، فلذا لا يكلّف الصبي والمجنون بالإيمان ولا الأخرس بالإقرار باللسان ولا المريض العاجز عن القيام بالقيام في مقام الإحسان فكان أبو جهل غير مسلوب العقل ، ولم يكن له أن يقول : لا أقدر على أن أصدق وأعترف ، وكذا المؤمن الصحيح التارك للصلاة ليس له أن يقول : لا أقدر أن أصلي.
والحاصل أن العبد ليس له أن يعتذر ويتعلق بالقضاء والقدر ، وفيه إشكال مشهور ذكرناه في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١). حيث نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما ، ووجه الإشكال ظاهر حيث أمرهم بالإيمان مع تقرير علمه بأنهم يموتون على الكفر ، والجواب أن إيمانهم ليس محالا لذاته ، بل لغيره حيث تعلق علم الله بعدمه فهم في عدم إيمانهم عاصون من وجه ، وطائعون من وجه ، ولعل هذا المعنى يستفاد من قوله تعالى : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (٢). أي انقاد في ما أراد ربّ العباد وسرّ القدر مخفيّ على البشر في الدنيا ، بل في العقبى فتدبّر ، قال الله تعالى : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣). والحاصل أن الاستطاعة صفة يخلقها الله عند اكتساب الفعل بعد سلامة الأسباب والآلات ، فإن قصد العبد فعل الخير خلق الله تعالى قدرة فعل الخير ، وإن قصد العبد فعل الشر خلق الله قدرة فعل الشر ، فكان العبد هو المضيّع لقدرة فعل الخير ، فيستحق الذمّ والعقاب ، ولذا ذمّ الله الكافرين بأنهم لا يستطيعون السمع أي لا يقصدون استماع كلام الرسول على وجه التأمل وطلب الحق حتى يعلموا ويعملوا به ، بل يستمعون على وجه الإنكار ، وقد يقع لفظ الاستطاعة على سلامة الأسباب والآلات والجوارح كما في قوله تعالى : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (٤). وصحة التكليف تعتمد على هذه الاستطاعة التي هي سلامة الأسباب والآلات لا الاستطاعة بالمعنى الأول ، فتأمل مع أن القدرة صالحة للضدّين عند أبي حنيفة رحمهالله حتى أن القدرة المصروفة إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان لا اختلاف إلا في التعلّق وهو لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة ، فالكافر
__________________
(١) البقرة : ٦.
(٢) آل عمران : ٨٣.
(٣) الأنعام : ١٤٩.
(٤) آل عمران : ٩٧.