يهزّ القلب البشري ، مشهد اللّيل وهو يطول فيدخل في جسم النّهار ويمتدّ ، والنّهار وهو يطول فيدخل في جسم اللّيل ويمتدّ ، ومشهد الشّمس والقمر مسخّرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلّا خالقهما. ويتّخذ من هذا المشهد الكونيّ دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة ، وهي قضيّة التّوحيد.
ثمّ يلمس القلوب بمؤثّر آخر من نعمة الله على الناس ، في صورة الفلك الّتي تجري في البحر ، ثمّ يوقفهم أمام منطق الفطرة حينما تواجه هول البحر مجرّدة من غرور القدرة والعلم ، الّذي يبعدها عن بارئها ، ويتّخذ من هذا المنطق دليلا على قضيّة التوحيد.
(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢)).
وبمناسبة موج البحر وهوله ، يذكّرهم بالهول الأكبر ، وهو يقرّر قضيّة الاخرة ، الهول الّذي يفرّ فيه الوالد من ولده ، والولد من والده :
(إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) [الآية ٣٣]. وتختم السورة بآية تقرّ القضايا الّتي عالجتها في إيقاع قويّ عميق مرهوب ، فتذكّر أن الله جلّ جلاله ، استأثر بخمس لا يعلمهنّ سواه :
(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤)).
هذه الجولات الثلاث بأساليبها ومؤثّراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب ، هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب ، العليم بمداخليها ، الخبير بما يصلح لها ، وما تصلح به من الأساليب.