وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب بذلك مذهبا حسنا ، فيقول : إنّ لفظ البشارة مأخوذ من البشرة فكأنّ المخبر لغيره بخبر النفع والخير ، أو خبر الشّرّ والضّرّ يلقي في قلبه من كلا الأمرين ما يظهر تأثيره في بشرة وجهه : فإن كان خيرا ظهرت تباشير المسرّة ، وإن كان شرّا ظهرت فيه علامات المساءة ، فحسن على هذا المعنى ، أن تستعمل البشارة في الشّرّ والضّرّ ، كما تستعمل في النفع والخير.
٣ ـ قال تعالى : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) [الآية ١٨].
وقرئ «ولا تصاعر» وهذه استعارة. وأصل الصّعر داء يأخذ الإبل في رؤوسها حتّى تقلب أعناقها. فكأنّه أمره أن لا يشمخ بأنفه ويعرض بوجهه من الكبر ، تشبيها بالبعير إذا أصابه ذلك الداء ، ومن صفات الكبر رفع الطرف حتّى كأنه معقود بالسماء ، وعلى ذلك قول كثيّر في صفة قوم بالكبر :
تراهم إذا ما جئتهم فكأنّما يشيمون أعلى عارض متراكب أي يرفعون رؤوسهم كبرا ، ويطمحون بأبصارهم عجبا ؛ وقال شيخنا أبو الفتح عثمان بن جنّي : أنشدنا أبو علي الفارسي هذا البيت ، وقال يصلح أن يجعل في مقابلة قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) [الشورى : ٤٥] لأنّ البيت في صفة المتكبّرين بالغيرة ، والآية في صفة الخاشعين بالذّلّة ، وهما في طرفين وسبيلين مختلفين. والبيت المتقدم ذكره أنشدنا إياه أبو الفتح عن أبي علي ، على ما ذكرته ، وهو قوله :
يشيمون أعلى عارض متراكب والصحيح «أعلى عارض متنصّب» لأن هذه القصيدة مدح بها كثيّر عبد الملك بن مروان ، وتالي البيت المذكور قوله :
يردون (١) شزرا والعيون طوامح بأبصارهم آفاق شرق ومغرب وأنشده منشد عمر بن عبد العزيز فقال هجانا ورب الكعبة ، يريد أنّه وصفهم بالكبر المفرط والطّماح المشرف (٢).
__________________
(١). نرجح أن يكون الفعل يرودون.
(٢). نظن أن الأصل المسرف.