ظلّه فنقضت شعرها فغطّاها. فزاده ذلك عجبا بها. ثمّ أرسل غلاما له فقال : اتّبع هذه المرأة فاعلم من هي ، أو ابنة من هي ، وهل لها زوج. فاتّبعها الغلام حتّى عرفها فرجع فقال : هي ابنة فلان ، وزوجها فلان ، وكان يومئذ مع ابن أخت داوود في بعث. فكتب داوود إلى ابن أخته : أن ابعث فلانا [واجعله بين يدي التابوت] (١) فلا يرجع حتّى يفتح المدينة أو يقتل. فبعثه فقتل. فلمّا انقضت عدّة المرأة أرسل إليها فتزوّجها ، وهي أمّ سليمان بن داوود.
فلمّا علم الله ما وقع في عبده (٢) أحبّ أن يستنقذه ، فأرسل إليه ملكين ، فأتياه في المحراب ، والحرس حول المحراب ، وهم ثلاثة وثلاثون ألفا. فرأى داوود الرجلين قد تسوّروا المحراب ، ففزع منهما وقال : لقد ضعف سلطاني حتّى إنّ الناس تسوّروا محرابي. فقال أحدهما : (لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ..). إلى قوله : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ). تفسير هذا المقرإ عند الكلبيّ : إن دعا دعوة يكون أكثر نداء منّي ، وإن بطش بطشه يكون أشدّ بطشا منّي. فقال له داوود : (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ ..). إلى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ). فنظر أحدهما لصاحبه فضحكا ، وعلما أنّ داوود لم يفطن ، فرجعا من حيث أقبلا.
قال الله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ ..). إلى آخر الآية. فسجد داوود أربعين يوما وأربعين ليلة لا يأكل ولا يشرب ، ولا يرفع رأسه ، ولا يقوم ، ولا يفتر من الدعاء. فتاب الله عليه. قال الله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ). وقد فسّرناه قبل هذا الموضع (٣).
__________________
(١) وردت الجملة مضطربة فاسدة في ع ، فصحّحتها بهذه الزيادة من نهاية الأرب للنويري ، ج ١٤ ص ٦١.
(٢) وردت العبارة في ع هكذا : «فلمّا علم ذلك ما وقع في عبده» ، وهي عبارة فاسدة صحّحتها قدر الإمكان ، ولست مطمئنّا إليها ، فعلم الله تعالى قبل كلّ شيء وبعد كلّ شيء.
(٣) ما ذكره القصّاص وأورده بعض المفسّرين في كتبهم كالثعلبيّ ، ومؤلّفنا هذا أحيانا من غير تنبيه على فساده ، إنّما هو من قبيل الإسرائيليّات ، وننزّه مقام الأنبياء أن ينسب إليهم مثل هذا. وقد بيّن المحقّقون من المفسّرين كذب هذه القصص ودحضوا أباطيلها بحجج دامغة لا تبقي مجالا للشكّ في أنّ هذه القصص من وضع الكائدين للإسلام ، ورواية الساذجين من المفسّرين. وواجبنا أن نقف عند حدود النصّ القرآنيّ لا نتعدّاه ، والسنّة الصحيحة التي ثبتت عن الصادق الأمين ، لا نزيد عليها ، في مثل هذه المواضيع. أمّا تفاصيلها فنكل الأمر فيها إلى الله سبحانه وتعالى. انظر مثلا : الزمخشري ، الكشّاف ، ج ٤ ص ٨١ ، والفخر ـ