ملومون لأنهم جميعا نووا وهموا أن ينفذوا ما نووا ، والتلاوم هنا ليس هو الاختلاف الذميم ، ولكنه من الإحساس الكريم ، إذ إنهم أحسوا بأن عبء المعصية كاملا ينوء بكل واحد منهم ، فيريد أن يلقى جزءا منه على صاحب له ، وإن اتفاقهم لا يجيء من غير داع منهم ، فإذا كان أوسطهم دعاهم إلى الخير ولم يستجيبوا فقد وجد منهم من دعا إلى الشر واستجابوا له ، وكان شرهم متعدد الأطراف ، فكان كل منهم قد دعا إلى ناحية دون الأخرى ، وهنا نجد أن التعبير بالتلاوم لا يدل على الفرقة والانقسام ، بل إنه فى هذا لا ينافى الالتئام.
وإنهم ينتهون من هذا التلاوم الذى ابتدأ بالألم من عبء المعصية ، ينتهون بعد التلاوم لفرط إحساسهم بالندم إلى أن يقولوا : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٣١) كان الإقرار بالذنب فى هذه المرة أقوى من الإقرار أولا ، لأنهم أحسوا بالهلاك الشديد ينزل بهم ، قالوا منادين الويل : (يا وَيْلَنا) ، أى أيها الويل النازل باستحقاق أقبل فإن ذلك وقتك ، ونحن موضعه ولا نتزايل عنه ولا نخرج ، وعللوا الويل الذى يستحقونه بأنهم كانوا طاغين ، والطغيان دائما يؤدى إلى الظلم ، فإذا كانوا فى الآية السابقة قد اعترفوا بالظلم ، ففي هذا النص السامى اعترفوا بسببه ، وهو الطغيان ، والطغيان يبتدئ من وقت أن يحس الشخص بأنه استغنى عن معونة غيره ، كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) (٧) [العلق : ٦ ، ٧] ، وقد ظنوا أنهم لا يحتاجون إلى معونة أحد ، وأن الله لا يمنعهم خيرا أوتوه ، وأن الأرض أرضهم والعمل عملهم ، والكسب كسبهم وحسبوا أن الثمرات آتية لا محالة.
بعد ذلك اتجهوا خاضعين إلى ربهم ، معتقدين أن الخير بيده ، وأن لا سلطان إلا سلطانه ، فاتجهوا بالرجاء بعد أن رأوا المنع جهارا نهارا وقالوا راجين : (عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ) (٣٢) هنا كان التفويض كاملا ، وإن ذلك النص الكريم يفيد فى تفويضهم ثلاثة أمور فى أجمل تعبير من الله تعالى عن ضمائرهم الخائفة ، بعد أن خلعوا رداء الطغيان :
أولها : الرجاء ، والرجاء يتضمن معنى التفويض من ناحية أنهم لا يرجون إلا من الله ، ومن ناحية أن كل ما يكون من الله تعالى ـ خير ، فإذا كان نزل بهم ما يكرهون ، فعسى أن يكون الخير فى هذا الحرمان ، كما قال تعالى : (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) [النساء : ١٩] ، ومن الخير أن هذبت نفوسهم ، وإذا كان حالهم من قبل حال طغيان وغرور ، فعسى أن يعطيهم الله تعالى بديلا لما منعوه ، ويكون معه الاطمئنان.
ثانيها : الاتجاه إلى الله تعالى مالك أمورهم ، ومربيهم ، والكالئ لهم والحامى ، والشعور بالمساواة مع المساكين فى ربوبية الله الخالق لكل شىء.