أنهم نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، فكان لا بد لكى يدركوا صالح أمورهم أن يؤمنوا بالله وأن يذكروه فى أعمالهم ظاهرة وباطنة ، فهم لا ينقصهم الجد فى العمل ، ولكن ينقصهم الإيمان ، فقال لهم : (لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) أى هل تسبحون وتنزهون الله تعالى ، وتقدسونه ، وتعلمون أنه القاهر فوق كل شىء ، وأنه العليم الحكيم ، وهنا كان فيما حكاه الله تعالى بالتعبير (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨) الاستفهام الداخل على النفى فى معنى الإثبات ؛ لأن نفى النفى إثبات ، وهو يدل على التوبيخ ، وتذكيرهم بأنهم لم يفعلوا ما فعلوا فاقدين للمنبه المرشد ، فقد أرشدهم إلى الطريقة المثلى والمنهاج الأسلم ، وهو الإيمان بالله تعالى وتقديسه وتنزيهه ، والإحساس بأنه الغالب على كل شىء ، القاهر فوق عباده.
٦٤ ـ إن المفاجأة مع التذكير ، ووجود الضمير والنفس اللوامة من شأنها أن تحيى موات القلوب ، وخصوصا أنه وجد من بينهم من ربط بين الحرمان الذى فوجئوا به ، والضلال الذى كان من نسيان ربهم ، وحرصهم وطمعهم ، وتفاهمهم على حرمان الضعيف مما أخرج الله تعالى من الأرض ، كان ذلك كله سبيل الهداية التى تجىء ، ومن القارعة التى تقرع الحس والنفس تنبهوا فعلموا ما ينقصهم ، وأنهم لهجوا فى الدنيا ، ولم يذكروا الله تعالى خالق السموات ، فقالوا فيما حكى الله تعالى عنهم : (قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (٢٩).
بعد أن تنبهوا من غفلتهم ، واستأنسوا بالحق من تذكير أمثلهم طريقة استجابت نفوسهم لداعيه ، وعلموا أمرين : علموا أنهم كانوا غافلين عن ربهم ، وعلموا أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الناس فيما تخافتوا به ، قالوا فى إعلان إيمانهم بالله : (سُبْحانَ رَبِّنا) نقدس وننزه ونسلم أمورنا لربنا الذى خلقنا وربانا وهو الحى القيوم القائم على كل شىء ، فرجعوا بذلك إلى الله تعالى خالق كل شىء ، ولكن لا يكون الرجوع كاملا ، إلا إذا تابوا توبة نصوحا ، وأحسنوا التوبة ، وأول طريق للتوبة هو الإقرار بالذنب ، إقرار من يحس بذل المعصية ، وذل الذنب قربة ، كما يقول ابن عطاء الله السكندرى : «إن معصية أورثت ذلا خير من طاعة أورثت دلا» ولهذا الإحساس بالذنب ، قالوا مؤكدين القول : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) لقد ظلموا أنفسهم بطمعهم وحرصهم ، ونسيان ربهم ، وظلموا الناس بمنع الفقراء من حقهم ، وإن الإحساس بألم المعصية من شأنه أن يجعل كل واحد يلقى تبعة التقصير أو التنبه على غيره ، فهم كانوا مجتمعين على طمعهم وحرصهم وتعجلهم ، ولكنهم بعد أن أحسوا بجرمهم أخذ كل واحد يتبرأ من أنه الذى ابتدأ بالدعوة بالمعصية ، وأن الآخر هو الذى دعا فأجاب ، ولذا قال الله تعالى حكاية عنهم بعد أن دخل الإيمان قلوبهم وأشربوا حبه : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ) (٣٠) كل واحد منهم يلقى على الآخر لوما ، لا كل اللوم ، فإنهم جميعا