هذا تصوير لا تعرف اللغات تصويرا للحرص والتعجل ، والاستيثاق بالأيمان وعدم التردد فيما يعملون ، ونية السوء ، والتخافت فيها ـ مثله. ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
٦٣ ـ ولكن الآيات الكريمات بعد تصوير حالهم هذه فى التعجل والحرص ، لتصوير المفاجأة ، وتنبيه المفاجأة للغافل وإيقاظها للضمير النائم ، وإثارتها للوجدان الساهى ، فيقول سبحانه فى رؤيتهم لتهدم ما بنوا عليه إشباع طمعهم ، وما حملهم على نية الشر ، فقال تعالت كلماته :
(فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧).
كانت المفاجأة بمقدار الحرص والطمع ، واسترسالهم فى المطامع المادية حتى استأثروا بها ولم يعطوا منها حق الفقير المسكين والسائل والمحروم ، وإذا كان حرصهم بلغ أقصاه ، فالمفاجأة بالحرمان كانت أشد وقعا ، أصابتهم بالحيرة الشديدة ، والضلال البعيد ، وأول الضلال أنهم توهموها غير أرضهم ، فلما استيقنوا أحسوا بضلال آخر معنوى أشد فتكا فى النفوس وتأثيرا فى القلوب ، وهو إحساسهم بالضلال المعنوى إذ قدروا ، ولم يدركوا تقدير الله ، وحسبوا أن الأمر إليهم وحدهم ، والله فوقهم ، فلما أدركوا ضلال تفكيرهم قرروا الحقيقة الثانية ، وهى أن الله تعالى قدر حرمانهم ، وما قدره نافذ لا محالة ، ولذا قالوا كما حكى الله عنهم مؤكدين : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) ، فالإضراب معناه هنا أنهم ترقوا من حال الضلال المؤكد إلى حال الإيمان بالحرمان المؤكد.
وإن قوله تعالى عنهم : (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) (٢٧) بعد (إِنَّا لَضَالُّونَ) فيه إشارة واضحة إلى الأسف والألم المرير ، ألم الضال ، والحرمان من الهداية ، ثم الحرمان المطلق من الثمرات التى طمعوا فيها ، وتخافتوا على ألا يعطوا الفقير.
وإذا كانوا قد اجتمعوا على ما كان منهم أولا ، فقد اجتمعوا على المفاجأة والحرمان ثانيا ، ولكن يظهر أن الشر لا يمكن الإجماع عليه دائما ، بل لا بد من قائم لله تعالى بحجة ، وإذا لم يستمع له قول ابتداء فإن قوله سيكون له صدى فى النتيجة بعد أن تتبدى الأمور وتنجلى.
وكذلك كانت حال أصحاب الجنة ، فقد كان فيهم رشيد ينبههم إلى خطأ ما أزمعوا أن يفعلوه ، وقد حكاه الله سبحانه وتعالى بقوله : (قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) (٢٨).
الأوسط هو الأمثل ، والوسط فى أوصاف الخير هو الأمثل دائما ، ومن ذلك قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] ، وهذا الأمثل عند ما رأى حالهم وتدبيرهم وطمعهم ، وما يسرون به وما يجهرون ، وما يتخافتون وما يعلنون ، لاحظ