وإن هذا الكلام الكريم لا يمكن أن يكون خطابا لليهود وحدهم ، وإنما هو خطاب للعرب ، ولم يكن باللمح والإشارة. بل كان بالتصريح والعبارة ، فلم يكن بالإيجاز ، وإن كان الإيجاز القرآنى من نوع الإعجاز ، بل كان بالإطناب المتسق المبين ، وكان فيه بعض التكرار فى موضعه ، لأن التوجيه إلى النظر فيما تحت أيديهم هو فى ذاته مقدمة لنتيجة هى الوحدانية للمعبود ما دامت وحدانية الخالق قد ثبتت بهذا الكلام ، فكان لا بد أن تذكر النتيجة أمام كل مقدمة ، لأنها وحدها دليل ، ولو لم تذكر النتيجة أمام كل مقدمة ، لكانت النتيجة ثمرة لمجموعها ، مع أن كل واحدة منها صالحة لأن تكون الوحدانية نتيجة لها ، دون أن تنضم معها غيرها.
الملاحظة الثالثة ـ وهى مبنية على الملاحظة السابقة ، أن الإيجاز والإطناب يكون لكل موضعه ، ومقامه ، فلكل مقام مقتضاه الذى توجه أحوال البيان المعجز.
وقد لاحظنا أن مقام الاستدلال على الوحدانية من المواضع التى يحسن فيها الإطناب ، وكلام الله تعالى اتجه إلى ذلك ، كما رأينا فى الآية السابقة ، وكما نرى فى سورة الرحمن فإنها تذكير بنعم الله تعالى ، وكل نعمة كفروا إذ استعملوها فى غير موضعها ، وفى أمر الله تعالى ونهيه. وإذا كان جزاء النعم كفرا بالمنعم ، وإشراك غيره معه فى العبادة ، فقد قال تعالى فى سورة الرحمن : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٨) إلى آخر السورة الكريمة.
وهكذا نجد بعد كل نص سام تتبين فيه نعمة الخالق بديع السموات والأرض يكون تذكير بنعم الله ، ووجوب شكرها بالطاعة وتجنب المعصية والإقرار بوحدانية المعبود ، وألا يعبدوا غيره سبحانه وتعالى ، وفى ذلك إشارة إلى أن كل نعمة من هذه النعم ، وبينة من هذه البينات توجب وحدها الشكر ، وتوجب الإقرار بوحدانية الله سبحانه وتعالى.