وإن الحقيقة تستعمل فى كثير من مواضع القرآن كالأحكام الشرعية التكليفية ، لأن بيانها يحتاج إلى أن تكون الكلمة محدودة المعنى ليتم القيام بموجبها ، وتكون الطاعة محدودة المعالم ، لا احتمال فيها ، إذ إن المطالبة بعمل توجب تعيينه بما لا يوجد فيه احتمال لمعنى غير المراد ، ليتم التكليف على بينة وعلم واضح بالمطلوب.
وكذلك القصص ، فإن القصص ذكر لحقيقة ما وقع لتكون به العظة الكاملة ، بحيث يتجه التالى للقرآن إلى مغازى القصة ، ومراميها من غير تزيد ، كما رأينا فى كثير من القصص القرآنى فيما تلونا من قصص نوح وإبراهيم وموسى ويوسف من قبله ، فإنك ترى فيه الحقائق مجردة إلا من بيان وجه العبرة ، ولا تجد المجاز والتشبيه إلا قليلا.
وكذلك الاستدلال على الوحدانية بالنظر فى الكون وما اشتمل عليه ، والنظر فى الشمس والقمر والنجوم المسخرات وهكذا ، مما يوجب الاتجاه مباشرة إلى الحقائق.
١٠٤ ـ وإن بلاغة الحقائق التى تذكر من غير استعانة بمجاز أو تشبيه لا تقل عن المواضع التى كان فيها تشبيه أو مجاز بالاستعارة أو غيرها ، فإن ذلك يكون لمعان مقصودة ، وغايات أخرى وراء فكرة البلاغة التى هى وصف عام للقرآن كله من غير تفاوت ، لأنها تتعلق بكتاب الله العزيز الذى لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله ، ولو كان معه الجن والإنس ، كما قال تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٨].
ويقول فى ذلك الباقلانى فى كتابه إعجاز القرآن : «إن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ، ولا يتباين ، على ما يتصرف فيه من الوجوه التى يتصرف فيها من قصص ، ومواعظ واحتجاج ، وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وتبشير وتخويف ، وأوصاف ، وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التى يشتمل عليها ، وتجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع يختلف على حسب الأحوال».
وبعد أن يبين اختلاف البلغاء فيما يجددون من أبواب ثم يقصرون فى غيرها فيقول : «وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه على حد واحد فى حسن النظم وبديع التأليف والوصف لا تفاوت فيه ، ولا انحطاط عن المنزلة العليا.
ولا إسفاف فيه إلى الرتبة الدنيا ، وكذلك تأملنا ما ينصرف فيه من وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة فرأينا الإعجاز فى جميعها على حد واحد لا يختلف ، وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة تفاوتا وتبينا ، ويختلف اختلافا كبيرا ، ونظرنا القرآن فيما يعاد ذكره من القصة الواحدة ، فرأيناه غير مختلف ولا