ولكن الآن نتكلم فى وجهة نظر الذين أثبتوا أن القرآن فيه سجع وإن كان أعلى مما يستطيعه الناس أو يزاولون.
ومن هؤلاء أبو هلال العسكرى فى كتابه «الصناعتين» فهو يقول :
«وجميع ما فى القرآن مما يجرى على القرآن من التسجيع والازدواج مخالف فى تمكين المعنى وصفاء اللفظ ، وتضمن التلاوة ، لما يجرى مجراه من كلام الخلق ، ألا ترى قوله عز اسمه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) (٥) [العاديات : ١ ـ ٥].
قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى من مثل قول الكاهن : «والسماء والأرض ، والقرض والفرض ، والغمر والبرض» ، ومثل هذا من السجع مذموم ، لما فيه من التكلف والتعسف ، ولهذا قال النبى صلىاللهعليهوسلم للرجل الذى سأله : «أندى من لا شرب ولا أكل ، ولا صاح فاستهل ، فمثل ذلك يطل : «أسجعا كسجع الكهان». لأن التكلف فى سجعهم فاش» ، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعا لقال : أسجعا ثم سكت ، وكيف يذمه ويكرهه ، وإذا سلم من التكلف ، وبرئ من التعسف لم يكن فى جميع صنوف الكلام أحسن منه ، وقد جرى عليه من كلامه عليهالسلام».
ونرى من هذا أن أبا هلال العسكرى يخالف الرمانى فى أن السجع كله مذموم ، بل منه المذموم الذى يظهر فيه التكلف ، ويرهق الألفاظ والمعانى ، حتى يحاول القائل أن يكون كلامه رصا غير متماسك ببلاط من المعانى.
ويرى أنه لا مانع من أن يوصف القرآن بأن فيه سجعا ، ولكنه سجع فى أعلى مراتب الكلام ، بحيث لا يمكن أن يجاريه أحد ، ولا يصل إلى علوه أحد من الخلق.
وابن سنان فى كتابه سر البلاغة يسمى ما فيه المقاطع متحدة سجعا ولكن فى درجة العلو القرآنى الذى لا يستطيع أحد أن ينهد فى كلامه إليه.
ويسوق نصوصا قرآنية يعدها من السجع منه ما تلونا ، ومنه قوله تعالى :
(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) [الفجر : ١ ـ ١٢].
ويقول ابن سنان أن نغم السجع كان مقصودا ، فقد حذفت الياء فى يسر ، وحذفت الواو ، وذلك صحيح فى اللغة ، ويقول : قصد إليه طلبا للموافقة فى الفواصل.