ويستدل أيضا بقوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) (٢) [القمر : ١ ، ٢].
ويتكلم ابن سنان فى البواعث التى بعثت الذين ينكرون أن يكون فى القرآن سجع ، فيحمد تلك البواعث مع الإصرار على المخالفة فيقول : وأظن أن الذى دعا أصحابنا إلى تسمية كل ما فى القرآن فواصل ، ولم يسموا ما تماثلت حروفه سجعا ، رغبة فى تنزيه القرآن عن الوصف اللاحق بغيره من الكلام المروى عن الكهنة وغيرهم ، وهذا غرض فى التسمية قريب ، فأما الحقيقة فما ذكرناه ، لأنه لا فرق بين مشاركة بعض القرآن لغيره فى كونه مسجوعا ، وبين مشاركة جميعه فى كونه عرضا وصوتا وكلاما عربيا مؤلفا ، وهذا مما لا يخفى ، فيحتاج إلى زيادة فى البيان ، ولا فرق بين الفواصل التى تتماثل حروفها فى المقاطع وبين السجع.
ويقول فارضا اعتراضا ، ورادّا عليه ، فإذا قال قائل : «إذا كان عندكم أن السجع محمود ، فهلا ورد القرآن كله مسجوعا ، وما الوجه فى ورود بعضه غير مسجوع؟ قيل : إن القرآن أنزل بلغة العرب وعلى عرفهم وعادتهم ، وكان الفصيح من كلامهم لا يكون كله مسجوعا لما فى ذلك من أمارات التكلف والاستكراه ، والتصنع ، ولا سيما فيما يطول من الكلام ، فلم يرد مسجوعا ، جريا على عرفهم فى الطبقة العالية من الكلام ، ولم يخل من السجع ، لأنه يحسن فى بعض الكلام على الصفة التى قدمناها ، وعليها ورد فى فصيح كلامهم ، فلم يجز أن يكون عاليا فى الفصاحة ، وقد أخل فيه شرط من شروطها ، وهذا هو السبب ، فأورد القرآن مسجوعا ، وغير مسجوع».
ونحن لا نفرض احتمال التكلف فى القرآن قط ، لأنه من عند الله تعالى. ولكن نقول هكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يكون هكذا كتابه ، وإذا أردنا أن نلتمس حكمة لذلك ، فهى فيما قال سبحانه : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) [الكهف : ٥٤] فتصريف القول فى القرآن ، كان من جماله الذى يعلو على كل البشر بأن يكون تصريف القول فيه بسجع أحيانا إن ارتضينا مذهب السجع ، أو الفواصل المتقاربة حروفها فى المقاطع أحيانا أو إطلاق الألفاظ فى القرآن ، من غير مقاطع ، مع ملاحظة أن ذلك كله فى أعلى درجات البلاغة التى لا يصل إليها أحد من البشر.
وابن الأثير فى كتابه المثل السائر يستنكر قول الذين يذمون السجع ، ويستنكر قول الذين لا يسمون ما فى القرآن من اتحاد المقاطع فى الحروف سجعا ، ويقول فى ذلك :
«وقد ذمه بعض أصحابنا من أرباب هذه الصناعة ، ولا أرى لذلك وجها سوى عجزهم أن يأتوا به ، وإلا فلو كان مذموما لما ورد فى القرآن الكريم ، فإنه قد أتى منه