وترى من هذا أن الآية الكريمة تتميم لآية قبلها ، لأنها بيان للحكمة والمصلحة الكاملة فى القصاص ، ليقدموا عليه غير نافرين لأنه اتقاء لشر مستطير ، وإذا كان القصاص فى ذاته أمرا لا تقبل عليه النفوس ، لأنه قتل أو قطع ، فالمصلحة أعظم من المضرة ، ولا شك أن الألفاظ قصيرة ، والمعانى التى تنطوى تحتها كثيرة ، وخصوصا أن تنكير كلمة «حياة» يدل على تعظيم هذه الحياة التى تترتب على تنفيذ القصاص ؛ لأنها تكون حياة آمنة سعيدة لا مزعجات فيها ، وخصوصا إذا كان مع حق القصاص حق العفو من المجنى عليه فإنه يربى التواد ، ويحل المحبة والمودة محل البغض والعداوة.
والآية الثانية التى ساقها الرمانى هى (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) ، ونلاحظ أن الرمانى قطعها عن سابقها ولا حقها من لفظ ، إذ الآية هى قوله تعالى : (فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢٣) [يونس : ٢٣].
ولا شك أن الجملة التى اختاروها من الآية الكريمة فيها إيجاز القصر الذى يعد من أعلى جوامع الكلم ، ولكن يقطعها عما قبلها وما بعدها وما جاءت فيه من أن الظالمين يدعون الله تعالى ضارعين فى حال فزعهم وخوفهم حتى إذا أمنوا بغوا وطغوا. وفى قطع الكلمات عن أخواتها ، قطع للمعنى عما يكنها ويظلها.
وقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] هى فى عمومها وشمولها فيها إيجاز قصر ، يمكن أن تكون مثلا عاليا يستشهد به فى القول ، ويصدق على كل خب لئيم ، ولكنه قطع الكلام عما قبله وما بعده ، فالآية الكريمة بهذا النص السامى (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٤٣) ، وكنا نود أن يأتى بالمثل الطيب فى بيئته من كلمات سابقة له ولا حقة.
وقوله تعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها* وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ، هو كلام محكم بالغ أعلى ما تصل إليه بلاغة القول ، وهى آية مستقلة ، ولكنها متممة لما قبلها. فهى متممة العطف على قوله تعالى : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) [الفتح : ٢٠ ، ٢١]
وقوله تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) [النجم : ٢٣] هى حكمة عالية فى ذاتها ، ولكنها مسبوقة ولها لا حق بها يحدها ، فهى جزء من قوله تعالى : (إن)