وآسيته حين بخلوا ، وقمت معه عند المطاردة حين قعدوا وصحبته فى الشدائد أكرم الصحبة ، ثانى اثنين ، وصاحبه فى الغار ، والمنزل عليه السكينة والوقار ، ورفيقه فى الهجرة ، وخليفته فى دين الله وفى أمته أحسن الخلافة حين ارتد الناس ، فنهضت حين وهن أصحابك ، وبرزت حين استكانوا ، وقويت حين ضعفوا ، وقمت بالأمر حين فشلوا ، ونطقت حين تعتعوا (١) ومضيت بنور إذ وقفوا ، واتبعوك فهدوا ، وكنت أصوبهم منطقا ، وأطولهم صمتا ، وأكثرهم رأيا ، وأشجعهم نفسا ، وأعرفهم بالأمور ، وأشرفهم عملا ، كنت للدين يعسوبا (٢). أولا حين نفر عنه الناس ، وأخيرا حين قفلوا (٣). وكنت للمؤمنين أبا رحيما ، إذ صاروا عليك عيالا ، فحملك أثقال ما ضعفوا عنه ، ورعيت ما أهملوا ، وحفظت ما أضاعوا ، شمرت إذ خنعوا ، وعلوت إذ هلعوا ، وصبرت إذ جزعوا ، وأدركت أوتار ما طلبوا ، وراجعوا رشدهم برأيك فظفروا ، ونالوا بك ما لم يحسبوا.
وكنت كما ـ قال رسول الله ـ آمن الناس عليه فى صحبتك ، وذات يدك ، وكنت كما قال ضعيفا بدنك ، قويا فى أمر الله ، فمتواضعا فى نفسك ، عظيما عند الله ، جليلا فى أعين الناس ، كبيرا فى أنفسهم.
لم يكن لأحد فيك مغمز ، ولا لأحد مطمع ، ولا لمخلوق عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوى عزيز حتى تأخذ له حقه ، والقوى العزيز ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق ، القريب والبعيد عندك سواء ، أقرب الناس إليك أطوعهم لله ، شأنك الحق والصدق والرفق ، وقولك حكم وحتم ، وأمرك حلم وحزم ، ورأيك علم وعزم ، فأبلغت وقد نهج السبيل ، وسهل العسير ، وأطفأت النيران ، واعتدل بك الدين ، وقوى الإيمان ، وظهر أمر الله ولو كره الكافرون ، وأتعبت من بعدك إتعابا شديدا ، وفزت بالخير فوزا عظيما ، فجللت عن البكاء ، وعظمت رزيتك فى السماء ، وهدت مصيبتك الأنام ، فإنا لله ، وإنا إليه راجعون ، رضينا عن الله قضاءه ، وسلمنا له أمره ، فو الله لن يصاب المسلمون بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمثلك أبدا ، فألحقك الله تعالى بنبيه ، ولا حرمنا أجرك ، ولا أضلنا بعدك.
وسكت الناس ، حتى انقضى كلامه ، ثم بكوا حتى علت أصواتهم.
١٤١ ـ هذه خطبة من عيون البيان العربى ، بل لعلها أبلغ خطبة بعد خطب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكن إن وضعناها بجوار القرآن أفلت ، كما تختفى النجوم إذا طلعت
__________________
(١) التعتعة فى الكلام : التردد من حصر الوعى.
(٢) اليعسوب : الرئيس المقدم.
(٣) رجعوا.