ونقول فى الإجابة عن ذلك : إننا نعلو بمنهاج القرآن عن الخطابة ، وإن كان يسلك بعض مناهج الخطابة فى الاستدلال ، وعلو القرآن فى هذه الحال بأسلوبه أولا ، فهو كيفما كان من نوع الكلام المعجز ، وثانيا ـ القرآن يعلو عن الخطابة فى أن كل مقدماته ونتائجه يقينية ، ولا ينبع شىء منها إلا من اليقين. وقد لام على مخالفيه أنهم يتبعون الظن ، وإن هم إلا يخرصون.
ونعود من بعد ذلك إلى الاعتراض الذى يرد على الخاطر ، وإن كان لا يرد على الموضوع ، فنقول : إن الناظر المستقرئ لأدلة القرآن يرى أكثرها قد حذفت فيه إحدى المقدمات ، ولقد قال الغزالى بحق :
إن القرآن مبناه الحذف والإيجاز (أى فى شكل الأقيسة) واقرأ قوله تعالى يرد على النصارى الذين يزعمون أن عيسى ابن الله ، لأنه خلق من غير أب : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (٦٠) [آل عمران : ٥٩ ، ٦٠].
ولا شك أن المثل الذى ساقه الغزالى ، واضح فيه حذف إحدى المقدمات ، وواضح المقايسة بين خلق آدم عليهالسلام وخلق عيسى عليهالسلام ، وأنه إذا كان الخلق من غير أب مبررا لاتخاذ عيسى إلها فأولى أن يكون الخلق من غير أب ولا أم مبررا لاتخاذ آدم إلها ، ولا أحد يقول ذلك.
وإننا نجد أنه قد حذفت مقدمة وبقيت واحدة وكأن سياق الدليل لو فى غير كلام الله تعالى يكون هكذا : إن آدم خلق من غير أب ولا أم ، وعيسى خلق من غير أب ، فلو كان عيسى إلها بسبب ذلك لكان آدم أولى ، لكن آدم ليس ابنا ولا إلها باعترافكم. فعيسى أيضا ليس ابنا ولا إلها.
وإن الحذف قد صير فى الكلام طلاوة ، وأكسبه رونقا ، وجعل الجملة مثلا مأثورا ، يعطى حجة فى الرد على النصارى ، ويذكر الجميع بأن آدم والناس جميعا ينتهون إليه ، وإنما خلق من تراب ، فلا عزة إلا لله تعالى.
١٥٥ ـ وقد يساق الدليل فى قصة ، وقد ذكرنا من قبل مقام القصص القرآنى فى هذا المقام ، ونقول : إن القرآن اتخذ القصص سبيلا للإقناع والتأثير ، وضمن القصة الأدلة على بطلان ما يعتقد المشركون وغيرهم ، وقد يكون موضوع القصة رسولا يعرفونه ويجلونه ، إذ يدعى المجادلون أنهم يحاكونه ويتبعونه ، فيجىء الدليل على لسانه فيكون ذلك أكثر اجتذابا لأفهامهم وأقوى تأثيرا ، وقد يكون مفحما ملزما إن كانوا يجادلون غير طالبين للحق.