ذكر البخارى والترمذى ، وقد ذكرا أن حذيفة عند ما آب من هذه الغزوة دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى أهله فقال : أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك. قال عثمان : فى ما ذا؟ قال : فى كتاب الله ، إنى حضرت هذه الغزوة ، وجمعت ناسا من العراق والشام والحجاز ، ووصف له ما كان من الاختلاف والتكفير ، وقال : إنى أخشى عليهم أن يختلفوا فى كتابهم ، كما اختلف اليهود.
أفزع هذا الأمر عثمان التقى ، كما أفزع المؤمنين الذى علموا ذلك النبأ الخطير ، ولكن الفزع لم يوهن العزيمة بل شحذها ، ولم يضعف الإرادة بل حفزها ، وكانت عزمة ذى النورين عثمان.
لقد أحضر النسخة المحفوظة عند أم المؤمنين حفصة لتكون الإمام الذى يحتكم إليه فيما هو مقدم عليه ، وجمع من الصحابة الحافظين الكرام بضعة على رأسهم زيد ابن ثابت الجامع الأول ، والثقة الثبت الذى كان له فضل التثبت فى كل كلمة وآية.
وقد قال له عثمان رضى الله تعالى عنه عند ما ندبه لذلك العمل الجليل : إنى مدخل معك رجلا فصيحا لبيبا فاكتباه ، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلى ، فجعل معه أبان وسعيد بن العاص ، فلما بلغا فى الكتابة قوله تعالى : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ٢٤٨]. قال زيد : فقلت التابوة وقال سعيد بن العاص التابوت ، فرفعنا الأمر إلى عثمان ، فكتب التابوت.
وكان جملة من ضمهم إلى زيد ثلاثة هم عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص الذى ذكرناه وعبد الرحمن بن الحارث ، وقال لهذا الرهط من قريش : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد ، فاكتبوه بلسان قريش ، فإنه نزل بلسانهم.
ويظهر أن سيدنا عثمان لم يكتف بهؤلاء الأربعة ، بل كان يضم إلى معاونتهم من يكون عنده علم بالقرآن يعاونهم فى كتابته ، ولقد روى ابن عساكر أن عثمان دعا إلى هذه المعاونة فقال : إن عثمان خطب يومئذ فى الناس وعزم على كل رجل عنده شىء من كتاب الله لما جاء به ، ويقول ابن عساكر فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دعاهم رجلا رجلا ، فناشدهم : أسمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو أملاه عليك ، وهكذا كان يتثبت فى الرواية ، كما كان التثبت من زيد ومن معه ، والذى كتب المصحف الأول الذى أودع أم المؤمنين حفصة رضى الله عنها وعن أبيها فاروق الإسلام.
وقد أتم زيد ومن معه جمع القرآن ، ولكن عثمان لا يكتفى ، بل إنه يسير فى الاستيثاق إلى أقصى مداه ، فيحضر مصحف أم المؤمنين حفصة ، ويعرض المصحف الجديد ، فيجدهما يتوافقان تمام التوافق ، لا يزيد أحدهما عن الآخر حرفا ولا ينقص