ولا شك أن فى هذا كله توجيهات نفسية لمن يتدبر ويعتبر ، ويستبصر ، وكان حقا على الذين يدرسون مجتمع الأسرة أن يجعلوا من هذا مثابة للدرس يدرسونه ، ويبنون عليه ، ويسترشدون به.
وإن قصة أسرة يوسف لم تنته هذه النهاية ، بل إن الإخوة من بعد سيلتقون ، وسيتعاتبون أو يتلاومون ، ولقد وصل يوسف عليهالسلام فى علوه إلى أن مكن من عرش مصر ، فقد مكن الله تعالى له فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء.
جاء إليه إخوته فعرفهم. ونسى بما أنعم الله به عليه مساءتهم ، ولعله استأنس بلقائهم ولم يستوحش. ولكنه طلب أخاه شقيقه ، وقال لهم : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) (٦١) ولكن شفقة الأخوة ، وشفقته بأبيه وقومه تغلب طلبه ، فيجعل بضاعتهم فى رحالهم وهم لا يعلمون ، فكانت ثمة محبة الأخوة ، ومحبة الشقيق.
رجعوا إلى أبيهم. وفى هذه الحال كانوا صادقين : (قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٦٣) ولكن ذكراه الأليمة تتحرك فيقول : (هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٦٤).
ثم اكتشفوا من بعد ما جهله عليهم يوسف الصديق فتحوا متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم : (قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) (٦٥) ، وفى هذه المرة كان يعقوب عليهالسلام أحرص من المرة الأولى ، فأخذ موثقا ليأتينه به إلا أن يحاط بهم ، فآتوه موثقهم.
وتحركت الشفقة الأبوية عليهم جميعا ، وخشى عليهم العين ، فقال عليهالسلام لهم : (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٦٧).
دخلوا مصر من حيث أمرهم أبوهم ، والتقوا بأخيهم ، وآوى يوسف إليه أخاه. وفاضت نفسه إليه قائلا له : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ).
وأراد أن يبقى أخاه فلما هموا بالرحيل ، وضع المكيال المصرى فى رحل أخيه : (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ