مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ) ثم وجده فى وعاء أخيه ، وبحكمهم أخذ أخاه وأبقاه عنده وتحركت فيهم الحال التى كانوا فيها عند ما رموا بيوسف فى الجب : قالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) وبذلك ثارت فى نفوسهم الغيرة القديمة ، وإذا كانت فى أول أمرها قد دفعتهم إلى القتل ، أو السير فى سبيله ، فقد دفعتهم هذه المرة إلى الكذب ورمى البرىء بالسرقة ، فأسرها يوسف فى نفسه ، ولم يبدها لهم ، فقال أنتم شر مكانا ، والله أعلم بما تصفون ، فأحسوا بالتبعة عند لقاء أبيهم ، وأرادوا أن يتشفعوا بحال أبيهم الشيخ فقالوا : (إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ) (٧٩). يئسوا من أن يعودوا بأخيهم لأبيهم الشيخ ، وتعرضوا للظنون التى لها فى ماضيهم ما يؤيدها ، وهموا بالعودة ، ولكن كبيرهم كان إحساسه بالتبعة أشد من سائرهم فقال لهم : (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ) (٨٢). عادوا إلى أبيهم وقالوا ما لقنهم إياه أخوهم الكبير الذى تخلف عنهم استحياء من لقاء أبيه ، ولكن الأب الشيخ لم يطمئن إلى ما قالوا ، وقال لهم : (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).
وإن الأمر إذا تأزم كان من لطف الله بعباده أن يفتح نافذة من الأمل فى وسط التأزم ، فكانت تلك النافذة ، وقال نبى الله الشيخ : (عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) وفى وسط هذه الحال استيقظ الماضى فتذكر ابنه المفقود يوسف الذى لا يعلم حاله ، أهو حى يرزق أم ميت قبر ، وقد برح به الحزن ، ويقول الله تعالت كلماته فى وصف حاله : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (٨٤) رأوا أن أباهم لا يزال يذكر يوسف ، ولا ينى عن ذلك حتى يتلف جسمه أو يموت ، وصارحوه بذلك ، فقال الشيخ الجريح القلب : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (٨٦).
وفى وسط هذه الغمة عادت إليه بارقة الأمل كما عادت أولا ، فقال بحنان الأب الشفيق : (يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٨٧).