ومن ذلك ما روينا عن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال : (أى أرض تقلنى ، وأى سماء تظلنى إذا قلت فى القرآن ما لم أعلم). وقد روى عن أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال : (كنا عند عمر بن الخطاب وفى ظهر قميصه أربع رقاع ، فقرأ «وفاكهة أبا» فسأل بعض الحاضرين «ما الأب» ثم عدل عن السؤال وقال إن هذا هو التكلف فما عليك ألا تدريه).
وإن الناظر إلى ما روى مستندا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بعضه ضعيف لا يصلح أن يكون حجة ، وبعضه لا يدل على منع الاجتهاد بالرأى فى فهم القرآن إن لم تكن سنة مسعفة ، وما روى عن أبى بكر إنما يدل على أن الممنوع أن يقول فى القرآن بغير علم ، وعمر رضى الله تبارك وتعالى عنه أراد أن يضرب الأمثال للناس بأن يبين لهم أن القرآن بحر عظيم عميق مملوء بالمعانى ، فلا يصح لأحد أن يدعى أنه تقصاه وعرف أطرافه ، وخشى أن يظن أحد أنه يحاول ذلك عند ما سأل عن معنى كلمة (الأبّ) فعدل عن السؤال.
ونحن لا نرى فيما ساقه ابن تيمية جزاه الله تعالى عن الإسلام خيرا ما يدل على المنع ، ولكن يدل على وجوب الاحتياط فى فهم القرآن ، وأن يكون بين يديه من دلائل العلم وبيناته ما يجعله يقول عن بينة ، ولا ينطبق عليه النهى فى قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء : ٣٦].
وإذا كان ابن تيمية قد عد التفسير بالرأى منهجا مهجورا أو يجب أن يهجر ، فعلى أى شىء اعتمد! إنه اعتمد على أربعة مصادر :
أولها ـ القرآن إذ إن القرآن يفسر بعضه بعضا ، فهو يبين أحيانا فى موضع ما أجمله فى موضع آخر ، ويوضح أحيانا فى موضع ما يبدو بادى الرأى أنه مبهم فى موضع آخر ، ويجمع آيات القرآن إذا تصدت لموضوع واحد يستطيع القارئ المتفهم أن يفهم بعض القرآن ببعضه.
وإن ذلك بلا شك نوع من الرأى والاجتهاد ، ولكن ابن تيمية لا يمنعه بل يوجبه كخطوة أولى.
وثانيها ـ السنة ، إذا لم يستطع القارئ أن يفهم القرآن من القرآن ، فإنه يتجه إلى السنة كما أسلفنا تحقيقا لقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤]. وقد قال النبى صلى الله تعالى عليه وسلم : «ألا إنى أوتيت علم الكتاب وأوتيت مثله معه».
وثالثها ـ ما قاله الصحابة فى تفسير القرآن ، كما ذكرنا من الأسباب فى موضعه ، وقد روى أن عبد الله بن مسعود قال : «والله الذى لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت».