فوجدوا الإيمان يقوى ويكثر أهله ، والشرك يضعف وينقص عدده ، تفاهموا على ألا يسمعوا لهذا القرآن كما أشرنا. وأن يهرجوا بالقول عند سماعه ، ولقد حكى الله سبحانه وتعالى عنهم ذلك ، فقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٢٦) [فصلت : ٢٦].
(ه) ولقد كانوا إذا تلا عليهم القرآن لا ينقده كبراؤهم ، وإن كان السفهاء السفسافون منهم يتطاولون لحمقهم ، أما الذين أوتوا حظا من الإدراك ، ولو أعمتهم العصبية وأبعدتهم عن الإيمان ، فإنهم يفرون من مواجهة النبى صلىاللهعليهوسلم ويقولون : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥].
(و) وإن الله سبحانه وتعالى لم يتركهم فى هذا العجز الصامت الذى يفرون فيه من المواجهة ، ولا يريدون المناصبة ، بل يكتفون بالسكوت العاجز ، ويحاولون التمويه على غيرهم ، كما كفروا فى أنفسهم بالحق ، وقد عرفوه ، بل تحداهم أن يأتوا بمثله ، ليثير حميتهم أو يؤمنوا به. وليبين ضعفهم أو يستسلموا ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣٨) [يونس : ٣٨] أى أنه إذا كان قد نسبه لله تعالى افتراء وهو منه ، فمحمد منكم ، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ، وادعوا شهداء لكم أو عليكم.
وادعوا أن ما فيه غير صادق فتحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بمفترى يكون فى مثل بيانه ، فقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) [هود : ١٣].
٣٠ ـ وننتهى من ذلك إلى حقيقتين ثابتتين نشير إليهما بالإجمال ، وسنتعرض ببعض التفصيل عند الكلام عن وجوه الإعجاز.
الحقيقة الأولى : أن قريشا مع شدة ملاحاتها للنبى صلىاللهعليهوسلم ، ومع أن القرآن قد ذكر آباءهم بغير ما يحبون ، وذكر أوثانهم بغير ما يؤمنون ، لم يتحركوا لأن يقولوا مثله ، وأذعنوا لبلاغته وقوته ، وما أسلم عمر بن الخطاب إلا بعد أن قرأ فيه ، وكذلك جبير بن مطعم ، وإن القرآن تحداهم أن يأتوا بمثله فما فعلوا ، بل ما تحرك العقلاء منهم لأن يفعلوا حتى لا يسفوا فى تفكيرهم وهم أمام رجل كبير فى قومه وعقله ، ومعه آيات الله تعالى البينات ، فدل هذا على عجز مطلق.
الحقيقة الثانية : أن القرآن جذب العرب إلى الإيمان بما فيه من روعة ، وقوة بيان ، وإيجاز معجز وأقوال محكمة ، وقصص تطول وتقصر ، وهى مملوءة بالعبرة فى طولها وقصرها ، وإطنابها الرائع وإيجازها الذى لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أوفاها بالعبارة الناصعة ، والإشارة الواضحة ، فما كان الإيمان نتيجة تحد للمقاويل منهم وعجز ، وإن