كان العجز ثابتا ، وإنما كان الإيمان ثابتا بالقرآن فهو الذى جذب إلى الإيمان بما فيه من بيان أدركوا أنه فوق طاقة البشر ، وأنه حقائق ثابتة كما قال تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٢٥) [الحديد : ٢٥].
وإن الثابت مع ذلك أنه لم يحاول أحد من أهل البيان أن يأتى بمثله. ولم يعرف ذلك ، وإذا كان التاريخ قد ذكر شيئا من هذه المحاولة ، فإنه كان فى أيام الردة من مسيلمة الكذاب وأشباهه ، وإن هذا الجزء الذى رواه التاريخ الذى روى تلك الكلمات التى حاول بها مسيلمة الكذاب أن يجارى فيها القرآن ، يبين مقدار إدراك المشركين ، إذ لم يحاولوا المجاراة ، حتى لا يسفوا ، ويكونوا أضحوكة بين العرب ، وموضع سخرية ، يسخرون بعقولهم ، ولننقل لك ما نقله الباقلانى (١) فى إعجاز القرآن ، ليتعجب وليتبصر الناظر ، كما قال الباقلانى ، فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى ركاكته قد أزل ، لأن الزلل سابق على سماعه ، والكفر سابق على ابتداعه ، وميدان الجهل واسع ، والحماقة لها أهل ، وميدانها عندهم ، ونحن إذا قلنا أن المشركين ضلوا ، فهم فى عقولهم كانوا أوسع إدراكا ، وإن جحدوا.
انظر ما قال الجهول يحاكى القرآن «والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من أحرم» ، لقد قال هذا لفض خلاف وقع فى قوم أصحابه : إنه ليس جديرا بأن يسمى كلاما فضلا عن أن يكون له فصاحة أو بلاغة أو أى نوع من الإدراك البيانى.
وهو يقول فى الحكم فى هذا الخلاف أيضا :
«والليل الدامس ، والذئب الهامس ، ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس».
وكان يقول : «ضفدع بنت ضفدعين ، نقى ما تنقين ، أعلاك فى الماء وأسفلك فى الطين ، لا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها».
وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان ، وكانت تتنبأ ، فاجتمع مسيلمة معها ، فقالت له : ما أوحى إليك قال أوحى إلى «إن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ، فنولج فيهن فقسا إيلاجا ، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا ، فينتجن سخالا نتاجا» فقالت أشهد أنك نبى (٢).
٣١ ـ هذه تفاهات القول التى نقلت عن الذين حاولوا معارضة القرآن. وقد أسفوا فى القول ، وهبطوا فى التفكير ، مما لم يرد أن ينحدر إليه أرباب البيان من قريش ،
__________________
(١) توفى سنة ٤٠٣ ه.
(٢) إعجاز القرآن للباقلانى ص ٢٤٠ (طبع دار المعارف تحقيق أحمد صقر).