اقرأ قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل : ١١٢].
وإذا قرأنا ، ورددنا البصر كرتين ، وجدنا كل كلمة فى حيزها لا تفارقه ، ولو فارقته لوجدناه فارغا لا يملؤه غيرها ، ولنبتدئ بالإشارة إلى ما فى كل كلمة مما اختصت به.
الأولى : كلمة (آمِنَةً) فالأمن معناه عدم الخوف من مغير يغير عليهم ، أو عدو يساورهم ، ولعل ذلك إشارة إلى مكة أو أن هذه القرية هى هى ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧) [العنكبوت : ٦٧] ، فتجد فى هذه الكلمة إشارة إلى نعمة ليست لغيرهم ، واختصوا بها دون الناس أجمعين.
الثانية : كلمة (مُطْمَئِنَّةً) فمعنى الاطمئنان يتصل بالنفس فهى قد منحها الله تعالى القرار والسكون والدعة من غير ضعف ، ومع هذه الدعة كان هو يقويها ويثبتها ، مع ما أعطاهم الله من سلطان أدبى على العرب ، وهم ملتقى اجتماعهم ومستقر شعائرهم الدينية ومقامهم الكريم الطيب فكل هذا يشع من كلمة مطمئنة.
الثالثة : (يَأْتِيها رِزْقُها) فإن هذا يشير إلى سهولة الحياة. وأنه لا يأتيهم كسائر العرب بانتجاع الكلأ ، والتنقل فى الصحراء لا ينالون الحياة إلا بشق الأنفس ، وبذوقهم فى طلبهم الرزق حر الحياة وقرها.
الرابعة : كلمة (رغدا) فالرغد هو الرزق الطيب المذاق المريء غير الوبيء وهو الواسع الكثير ، فهم فى رزق يأتيهم سهلا طيبا ، واسعا مريئا لا وباء فيه.
ولكنهم كفروا بهذه الأنعم كلها فأى صورة بيانية أروع من هذه الصورة ، وتجد الكلمات الأربع متآخية فى معانيها ، متلاقية فى ألحانها منسجمة فى نغماتها ، وكل كلمة منها تعطى صورة بيانية ، فآمنة فيها صورة البلد الذى لا يساوره عدو فى وسط موطن فيه يتخطف الناس ، ومطمئنة يشير إلى الاطمئنان النفسى الساكن القار كالماء الساكن الذى لا تعبث به الرياح. ويأتيها رزقها طيبا من كل مكان ، تشير إلى المكانة التجارية التى يأتيها الخير من كل بلد قاص ودان ، وأن لهم رحلة الشتاء والصيف.
وإن مجموع الكلمات مع ما تشعه كل واحدة من معان وصور ، يصور حال جماعة من الناس على هذه الأمور المجتمعة غير المفترقة ، وكلها فيوض من أنعم الله تعالى ، ومع ذلك تكفر هذه النعم ، فلا تشكر بل تجحد الحق ولا تؤمن ، وهنا تجىء الصورة الثانية من عقاب ومؤاخذة على ما ارتكبوا من كفر بأنعم الله ، ونجد أن كلمة