أنعم فيها فصاحة وصورة بيانية. إذ إنهم لم يكفروا بواحدة ، بل كفروا بها كلها ، فكان الجحود أشد ، والضلال أبعد ، ولكلمة أنعم نغمة هادئة مع سعة المعنى فى الكلمة ، إذ إنها نعم متضافرة ، وفيوض خير من الله تعالى متكاثرة.
هذه حال ما أفاض الله تعالى به عليهم ، كانت فيها صور النعم واضحة كلا وجزءا فى كل كلمة سيقت لذلك. فلننتقل من الآية الكريمة إلى الصورة التى حلت محل الأولى ، ولننظر إلى الكلمات السامية كلمة كلمة ثم ننظر إلى الصورة التى تتكون من هذه الكلمات التى كانت كل منها صورة قائمة بذاتها ، وهى أيضا جزء من الصورة الكبرى التى يكونها المثل القرآنى السامى.
الكلمة الأولى : أذاقها الله : فى التعبير بأذاق إشارة إلى أن الإيلام مس نفوسهم ، وبعد أن كانوا فى ترف صاروا يذوقون الضر.
يقول الزمخشرى (١) فى معنى الإذاقة : «قد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها فى البلايا والشدائد ، وما يمس الناس منها ، فيقولون ذاق فلان البؤس والضرر ، وأذاقه العذاب ، شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر» ونرى من التعبير والتقابل أنهم بعد ما سكن قلوبهم من اطمئنان ، وما كان من العيش الرغد ذاقوا الجوع ، وبما منحوا من أمن ذاقوا الخوف ، وهكذا تجد التقابل.
والكلمة الثانية : لباس الجوع والخوف ، فيها صورة بيانية رائعة ، فهى تصور الجوع والخوف كأنه لباس لبسهم وأحاط بهم إحاطة الدائرة بقطرها ، لا يخرجون منه إلا إليه ، ولا يدورون إلا فى دائرته ، وإن ذلك بلا ريب يفيد الإحاطة الشاملة الكاملة التى لا يستطيعون منها فكاكا ، وهذا يفيد استمراره وتجدده آنا بعد آن ، ولقد قال الزمخشرى : «وإن اللباس قد شبه به لاشتماله على اللابس ، ما غشى الإنسان والتبس به من بعض الحوادث ، وأما إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، كأنه قيل ما غشيهم من الجوع والخوف».
ومهما يكن تصوير إمام البلاغة الزمخشرى من أن التعبير باللباس يفيد أنه غشيهم وأحاط بهم فإن فى الكلام صورة بيانية تصور حالهم بعد الأنعم التى أنعم بها عليهم ، وكفروا بها من أنهم فى صورة من كان لابسا للجوع والخوف ، وهم يذوقون ، كمن يلبس ملبسا كله قتاد ، يجرح أجسامهم ، ويدمى جلدهم ، بيد أن هذا لا يدمى الجلد ، ولكن يمس الحشا بالجوع ، والنفس بذهاب الأمن والاستقرار ، وإنا نجد أن هذه الصورة البيانية التى يصورها القرآن قد تضافرت الكلمات فى تكوينها فاشترك فيها التعبير بأذاقهم ، والتعبير باللباس ، وكون اللباس جوعا وخوفا ، ولباس الجوع والخوف أشد
__________________
(١) هو محمود بن عمر الزمخشرى إمام عصره فى اللغة والتفسير والحديث توفى سنة ٥٣٨ ه.