إيلاما من لباس الشوك ، لأن الشوك يؤذى الجلد حسا ، ولباس الجوع والخوف يؤذى الجسم ويؤذى النفس ، وإذا قوبلت هذه الصورة عند الكفر بالصورة الأولى من أمن واطمئنان ، ورخاء فى العيش وطيبه واتساعه ، وجدت الفارق بين صورة النعمة التى كفروا بها والشقاء الدائم بعد الكفر.
ومن ذلك يتبين مقام كل كلمة فى تكوين الصورة العامة ، فوق النغمة الهادئة ، والتصور الحكيم.
٤٩ ـ ولننتقل إلى مثال آخر ، لا نختاره من القرآن اختيارا ، ولكن نأخذه من غير تخير ؛ لأن التخير يكون فيما يكون فيه المختار وغير المختار ، وكتاب الله تعالى كله خيار ، وكله فوق طاقة البشر ، ولأن الذى يختار بفرض من نفسه حكما ، ومن يكون حاكما على كتاب الله تعالى؟ إنما يحكم على الكتاب من أنزل الكتاب ، الذى تعهد بحفظه ، وإنما نحن نتلمسه ونطلبه من الكتاب من غير تخير ، لأنه فوق طاقتنا ، وفوق التخير.
اقرأ قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤). [الإسراء : ٨٣ ، ٨٤]
اقرأ هذه الآية ، وقف عند كلماتها وتأمل فى تآخى نغمها ، وتأخى معانيها وتصويرها فى جملتها للنفس الإنسانية ـ الكلمة الأولى ـ أنعمنا ، فقد أضافها الله تعالى إليه ، وإنعام الله تعالى فيض وإسباغ يغمر صاحبه ، والإنعام من الله تعالى يقتضى الشكر كما قال تعالى : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم : ٧] وكان هذا يقتضى إقبال الإنسان عليه سبحانه ، والإقبال بالطاعة ، ولكنه لم يقبل بل كفر وطغى أن رآه استغنى.
الكلمة الثانية : أعرض ، وهى كناية عن البعد عن الله تعالى وعدم الإقبال عليه ، تعالى الله علوا كبيرا ، وأصل أعرض فى المعنى الحسى أن يولى عرض وجهه بألا يقبل على الله تعالى ، ويطلب المزيد من النعم بالطاعات يقدمها ، ويحب الله تعالى ويخلص له إذ أنعم ، ولكنه يظن أنه استغنى ، وعند ظن الاستغناء يكون الطغيان ، ويكون ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ووراء ذلك الفساد الكبير والشر المستطير.
الكلمة الثالثة : نأى بجانبه ـ النأى هو البعد ، وكلمة بجانبه ، مؤداها اتخاذ جانب آخر غير جانب الله تعالى ، فيسير فى ضلاله البعيد ، ويقول الزمخشرى : إن كلمة ـ نأى بجانبه ـ تأكيد لمعنى ـ أعرض ـ ونقول أنها تأكيد لمعنى الإعراض من حيث إنه الخطوة التالية بعد الإعراض ، فالإعراض عن الكلام عدم الإصاخة إليه ، وعدم الالتفات