ولا شك أن هذه الجمل السامية والكلمات تصور حال إنسان غير قار ولا ثابت ، تبطره النعمة ، ويؤيسه الاختبار ، وكل ذلك فى ألفاظ منسجمة فى نغماتها ، متضافرة فى معانيها ، تدل على النفس المنحرفة وتصورها.
ولقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) (٨٤) [الإسراء : ٨٤] ، وهنا نجد النص الكريم يفيد ما يدل على أن الناس جميعا ليسوا سواء فى ذلك ، فمنهم شقى على الصورة التى ذكرها سبحانه ، ومنهم سعيد ، وهم الصابرون الذين لا تضطرب نفوسهم بنازلة تنزل ، ولا يطغون بنعمة تسبغ ، وكأن هذه الجملة فى موضع التخصيص من عموم الإنسان المذكورة أولا كالاستثناء فى قوله تعالى : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (١٠) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (١١)
[هود : ٩ ـ ١١].
والكلمة السامية (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، نجد فيها ثلاث كلمات منها ينبثق نور ، فالأمر للنبى صلىاللهعليهوسلم بأن يقول ذلك ، فيه ما يصور أن بعض الناس كذلك ، وأن فى الناس من ليسوا كذلك ، فدلت كلمة «قل» التى تتضمن الرد على هذا الاعتراض المفروض. وانتقل الكلام من ضمير المتكلم من الذات العلية إلى الخطاب الذى أمر به النبى صلىاللهعليهوسلم ، لأن الأمر تنبيه ، يتولاه صاحب الرسالة المتكلم عن الله نازلا إلى مرتبة المسترضين ليواجههم بالرد ، وفى ذلك فضل تنبيه وتقريب ، وذات الانتقال من المتكلم إلى المخاطب فيه تجديد بيانى ، وتصوير بلاغى ، والشاكلة ـ الهيئة والصورة والسجية ، والمنهج الذى يخطه لنفسه ويسير عليه من الضلالة كالأولين والهدى للمهتدين ، والشاكلة تطلق على الطريقة ، ويقول الزمخشرى أنها من قولهم : طريق ذو شواكل ، الطرق التى تتشعب منها.
وفى هذا الكلام معان دقيقة تنبعث من صور الكلمات ، ومرامى العبارات ، وحسن المقابلات ، إن الناس قسمان : قسم شاكلته تلقى النعمة بالإعراض ، ووراء الإعراض الظلم والطغيان والفساد فى الأرض. وقسم صابر ضابط لنفسه لا تبطره النعمة ، بل يصبر عليها فيطيع ، ويقوم بحق شكرها. والأول مضطرب النفس غير منضبط القلب ، تطغيه النعمة فيستكبر ، وتؤيسه النقمة ، فيكفر باليأس من رحمة الله.
وإن لله تعالى العلم الكامل بالصنفين ، وهو مجاز للفريقين ، وقد ختم النص الكريم بقوله تعالت كلمته : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) وهنا نجد المعانى تشع بنورها من هذه الكلمات.