وكل هذه المعانى تشرق من مقابلة الارتفاع بالإخلاد إلى الأرض.
وهنا نجد صورة رائعة تلتقى فيها أطياف مميزة بألفاظ مصورة فهى تصور شخصا أفاض الله تعالى عليه بأسباب الإيمان بالحق ، والتصقت به حتى صارت كأنها جزء من كيانه ، وقد اتصلت ببنائه ، ولكنه بسبب أنه أخلد إلى الأرض وكان نزوعه متصلا بأعلاقه قد سلخ البينات الملتصقة بها بانغماس فى الضلال متكرر مستمر ، حتى انسلخ من الهداية ، وفى ذلك إشارة بيانية إلى أنه ترك الهداية بعد عمل مستمر قام به ، فهو قد ابتدأ فى الشر متبعا هواه ثم كرره حتى كون له خطوطا فى نفسه ، وتكرر حتى صارت الخطوط مجارى ، فكان الانسلاخ وبعد الانسلاخ وجد الشيطان طريقه فأتبعه بغية الضلال ، وقد مثله تعالى بمثال آخر ، وذكر له صورة أخرى.
وذكر فى الكلمة الرابعة : «فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث» ؛ واللهث كما يقول علماء اللغة أن يخرج الحيوان لسانه مرطبا بلعابه فى حال عطشه أو جوعه أو إعيائه ، أو إهاجته وذعره ، ويقولون : إن أخس أحوال الكلب أن يكون منه اللهث فى كل أحواله ، فإنه يكون مكروبا دائما. وقد ذكر القرآن الكريم حال من ينسلخ من الهداية إلى الغواية بأنه يكون فى حال هياج نفسى مستمر لا يستقر على قرار ، ولا يسكن على حال ؛ إذ إن الهداية إيمان ، والإيمان اطمئنان وقرار ، ومن يكفر بالله وينسلخ على هدايته اتباعا لهواه يكون فى لهج مستمر ، فيكون كالكلب فى أخس أحواله وأذلها ، إن هيج لهث وبدت صورته شوهاء ، وإن سكت عنه بدا على هذه الصورة.
وإن هذا تصوير واضح لمن غلب عليه هواه ، إذ تغلب عليه شقوته ويكون فى اضطراب ، وشعور بحرمان دائم يستقر فى نفسه ؛ لأن الهوى يجعل النفس طلعة تتطلع ولا تهدأ ولا تستقر ولا تطمئن.
ونرى من هذه الآية وما سبقتها كيف يكون كل لفظ مؤديا معنى خاصا يقصد ، ويعطى صورة من البيان لها أطياف كأطياف صورة التصور الحسية التى تصورها يد صناع لمصور ماهر ، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى ، ومن مجموع هذه الصور المتكونة من الكلمات تكون صورة كلية يتمثل فيها أعلى صور البيان.
٥٢ ـ ولننتقل من هذه الصورة الرائعة التى تتكون من مجموع صور بيانية للعبارات إلى صورة بيانية لبيان حال ما ينزل بالكفار يوم القيامة ، ولا يصح أن يجول بخاطر أحد أننا نبحث فى ألفاظ القرآن الكريم متخيرين ، بل نفتح فنجد الأمثال الواضحة من غير تحر ولا تخير.