لقد قال تعالى فى سورة الدخان فى تصوير غذاء المشركين يوم القيامة ، وترى كل كلمة من النص تبين صورة مؤلمة مزعجة لما يتناولون ، ويشترك فى الصورة نغمة الكلمات ونسقها وتآخيها.
اقرأ قوله تعالى : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) (٤٩) [الدخان : ٤٣ ـ ٤٩].
ولننظر إليها ، ونبين ما فيها من صورة بيانية ، تتخذ منها ومن أخواتها صور بيانية لأغلظ عيش وأقسى حياة ، وكيف يكون الغذاء كله إيلاما لا إشباع فيه ، وإيذاء لا متعة معه ، ثم يختم القول بتهكم على من كان يحسب نفسه عزيزا كريما والمؤمنين أراذل منبوذين.
أولى هذه الكلمات شجرة الزقوم. وهذا استعمال قرآنى لم يكن كثيرا عند العرب ، وإن كان أصل اشتقاقه من لغتهم ، والزقوم صيغة مبالغة من الزقم ، الزقم إعطاء الطعام الكريه أو الأمر الكريه ، ويقال تزقم إذا ابتلع شيئا كريها غير مرغوب فيه ، بل تنفر عنه الطباع وتستكرهه.
فشجرة الزقوم الشجرة التى لا تثمر إلا ثمرا كريها تعافه النفوس ، ولا يناله المتناول إلا مكرها بإكراه من ذى جبروت ، أو من جوع ، أو من يكون فى حال من يريد تناول أى شىء مهما يكن ذلك الشيء ، ومهما يكن مذاقه ، ومهما تكن وباءته ، والتعبير بشجرة الزقوم فيه إشارة إلى أنه طعام مثمر مستمر ؛ لأن ثمراته الوبيئة الكريهة لا تنقطع ، فهى شجرة دائمة الإثمار.
وفى هذه الآية يذكرها ، وفى آية أخرى يذكر سبحانه أنها تنبت فى أصل الجحيم ، فهى من ثمرات شجر جهنم ، وفى ذلك تصوير لحال الطعام ، وتصوير لحال المقام ، وكيف أن المترف فى الدنيا يتنقل من واد نيرانى إلى واد مثله وكل حياته منها ، فإقامته فيها وغذاؤه من ثمار أشجارها ، وبئس مثوى الكافرين.
الكلمة الثانية : طعام الأثيم يقول الذين تكلموا فى ألفاظ القرآن أن الإثم الأمر المبطئ عن الخير المعوق عنه أو المؤخر له. وعبر عنها بكلمة أثيم ، وهى صيغة مبالغة من أثم وصفة مشبهة تدل على حال دائمة مستمرة ، فهى تدل على أنه فعل الإثم كثيرا ، ولذلك وصف بصيغة الصفة المشبهة ، وهو حال دائمة عنده ، إذ الصفة المشبهة تقتضى أن يكون الموصوف بها فى حال دائمة فى صفتها لا تفارقه ولا يفارقها ، وهنا معنيان كلاهما يدل على بلاغة اللفظ ، وعظم مؤداه :
أول المعنيين : ذكر الوصف الذى يشير إلى أن سبب ذلك الجزاء هو الإثم الدائم الكثير الذى كان منه فى الدنيا ، فالجزاء من جنس العمل ، والعدل يقتضى ألا يتساوى المسيء بالمحسن ، فهل يستوى الأعمى والبصير؟