ثانيهما : أن ذلك الثمر الكريه الذى تثمره شجرة من نار جهنم هو الطعام الدائم المستمر الذى لا يقدم للطغاة إلا هو ، فلا يذوقون طيبا ، لأنهم لم يذيقوا الناس فى الدنيا طيبا ، وهل يكون جزاء الخبيث إلا خبثا.
الكلمة الثالثة : كالمهل يغلى فى البطون ـ والمهل دردى الزيت ، أى الراسب أو بقايا الزيت ، وتكون عادة سوداء معتمة ، ثم هى فى ذاتها شىء رديء ، وأعطاه القرآن وصفا وهو أنه يغلى فى البطون ، فهو بقايا رديئة أصابها العطن لغليانها إما لحموضتها إذ تغلى كالأشياء العطنة التى تتخمر وتغلى بالزبد ، وإما لأنها تكون ذات حرارة شديدة تغلى من شدة هذه الحرارة ، ولعل غليانها من الأمرين فهى متعفنة تغلى بالزبد من الحموضة ، أو هى حارة تغلى منها البطون لشدة الحرارة ، وفى كلتا الصورتين تدخل على البطون غذاء وبيئا ، إن كان فيه مادة الغذاء ، وليس غذاء مريئا ، فهو إن يمنع غائلة الموت ويبقى فإنما يبقى لتستمر الآلام ، وتكون حياته نكدا ، فطعام كريه فى مذاقه ، وبىء فى مآله ، مؤلم فى كل أحواله.
وقد يقال أن الأظهر هنا أن الغليان من العفونة التى تكون من بقايا هذا الزيت ، لأن التشبيه جاء بعد ذلك فى قوله تعالى : (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) وهو الماء الحار إذا بلغ أقصى درجات الحرارة ، فغلا واشتد غليانه ، والجواب أن الزيت يغلى مع شدة الحرارة كغليان الماء وهو فى هذه الحال يكون أشد لأنه يكون فى درجة حرارة أعلى ، وكان تشبيهه بالماء للتصوير والتقريب ، وكثير من تشبيهات القرآن للتقريب والتصوير ، فالغليان يكون بالعفونة ، وبالحرارة معا.
الكلمتان الرابعة والخامسة : (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) فإن كل كلمة من هذه الكلمات تصور صورة عنيفة لهذا الذى عصى وغوى ، وضل إذ حسب أنه استغنى.
فكلمة الأخذ تنبئ عن القبض بعنف ، وقد كان فى القرآن الكريم ما يدل على العنف فيها كما قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (١٠٢) [هود : ١٠٢] ، وكان الأخذ بأمر الله لملائكة غلاظ شداد ، فكان الأخذ فى ذاته شديدا ، وكان الآخذون أشداء ، وتجهيلهم هنا مع وصفهم فى آية أخرى بأنهم غلاظ شداد ، فيه إرهاب وبيان لعظم الأخذ بالآخذين.
وقد فسر سبحانه فى الآية بما يدل على شدة الأخذ ، وبيان أنه نوع خاص منه ، إذ قال سبحانه : (فَاعْتِلُوهُ) إذ العتل هو الأخذ بمجامع الشيء والإحاطة به وجره بالقهر والعنف ، فإذا كان الأخذ فى ذاته عنيفا ، فهو فى هذا النص أشد عنفا ، إذ هو جر وإحاطة قوية بالمأخوذ ، وإن الأخذ بهذه الصورة من جر عنيف وإحاطة فيه ما يدل على الإهانة والتحقير ، وخصوصا إذا كانوا يحسبون أنهم وحدهم الكرام ، وغيرهم أراذل دونهم فإن الأخذ بطريق العتل يعطى صورة للمهانة التى يكون عليها من يستكبرون على