سورة أخرى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).
[العنكبوت : ٤٨]
الثالثة : أن قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) الدراية داخلة على الاستفهام ، ففي الدراية متجه إلى الحقيقة ، أى أنه ما كان يدرى حقيقة الكتاب ولا تفصيل الإيمان ، وهذه تأكيد لنفى العلم بالكتاب علم دراية ، ونفى العلم بتفاصيل الإيمان علم دراية.
ولا شك أن كل كلمة من هذا النص وما سبقه تتآخى مع ما بعدها وما قبلها فى تقرير حقيقة ثابتة ، وهى أن القرآن روح من عند الله ، وكل روح فيها حياة ، وحياته فى الشريعة التى أنزلها ، والتوحيد الذى دعا إليه ، والحق الذى أثبته ، والصلاح الذى بثه ، ودفع الفساد فى الأرض ، ولكن القرآن نور هذا الوجود (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا).
٥٩ ـ وننظر فى النص ، وانسجام ألفاظه ، وتلاقى معانيه ، وإنك تجد للاستدراك هنا موضعا طيبا ، إذ إن النص الكريم السابق كان فيه نفى الدراية عن حقيقة الكتاب وعن حقيقة الإيمان ، والاستدراك هنا لا يفيد أن نفى الدراية دائم ، بل إنه ينتهى بعلم الكتاب الذى هو النور الذى يهدى به الله تعالى.
ولنترك الكلمة للباقلانى فى الإعجاز فهو يقول :
«جعله سبحانه وتعالى روحا لأنه يحيى الخلق ، فله فضل الأرواح فى الإحياء ، وجعله نورا لأنه يضيء ضياء الشمس فى الآفاق ، ثم أضاف وقوع الهداية إلى مشيئته ، ووقف وقوع الاسترشاد به على إرادته ، وبين أنه لم يكن ليهتدى إليه لو لا توفيقه ، ولم يكن ليعلم ما فى الكتاب ولا الإيمان لو لا تعليمه ، وأنه لم يكن ليهتدى لو لا هداه فقد صار يهتدى ، ولم يكن من قبل ذلك ليهتدى ، أى أن القرآن الكريم قبل نزوله ما كان النبى صلىاللهعليهوسلم يدرى ما الكتاب ولا الإيمان ، وبعد نزوله اهتدى وعلم ، وبلغ مرتبة أن يحمل الهداية والإرشاد للناس بعد أن كان لا يدرى الكتاب ولا تفصيل الإيمان ، وهذا يفيد أن القرآن تعليم الله للنبى ، وللناس من بعده».
وأن الكلام السامى (وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً) فى هذا استعارة تمثيلية ، أى أنه هو كالنور المضىء الذى لا يضل فيه السارى ولا يختفى على من يبصر بسببه شىء ، بل إن فيه تأكيد التشبيه بجعله هو النور ، وأن الذين لا يبصرون حقائقه ، وما فيه من علم ، العيب فيهم وليس فيه ، والنقص منهم وليس منه ، وإضافة جعله نورا إلى الله تعالى تشريف له فوق تشريف ، وهو يتفق مع النسق الذى ابتدأ به النص الكريم ، ولكن مع أنه النور الذى يهدى ـ لا يهتدى به الناس من غير أن يكون ذلك بمشيئة الله تعالى. فقال