إنها النفس إذا جبلت على الخير وطبعت فيها الأريحية قدمت في سبيل العز والمجد كل ما تملك ، لم يك عند العجوز سوى شاة هى كل ما تملك مما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء ، فتقدمت وبيدها الشاة قائلة لهم :
دونكم هذه الشاة فاحلبوها واشربوا لبنها ، فلما فعلوا ذلك تقدمت إليهم مرة أخرى قائلة :
أقسم عليكم إلا ما ذبحها أحدكم حتى أهيّئ لكم الحطب لشيها ، ففعلوا ذلك وهيأت العجوز الحطب ، وبعد الفراغ من تناول الطعام عزموا على الرحيل فتقدموا إليها وعرفوها بشخصياتهم ليجازوها على صنعها خيرا إن رجعوا إلى وطنهم ، قائلين :
« يا أمة الله إنا نفر من قريش نريد حج بيت الله الحرام ، فاذا رجعنا سالمين فهلمي إلينا لنكافئك على هذا الصنع الجميل ».
ثم انصرفوا لشأنهم ، ولما عنّ غياب القرص عن السماء أقبل رب البيت على عادته فأخبرته العجوز بالقصة ، فاستولى عليه الغضب ، ذلك لأن الشاة هي مصدر القوت وإدرار الرزق عليهم ، فقال لها : ويحك أتذبحين الشاة لأناس لا تعرفينهم؟ ثم تقولين إنهم نفر من قريش.
وطوى الدهر عجلته فمضت سنة وأقبلت أخرى فاعترت البادية أزمة شديدة لأن السماء قد منعتها قطرها حتى قلت موارد العيش وانعدمت أسباب القوت ، فرحلا عن البادية ونزلا المدينة ، ولم يجدا عملا يحيطان به خبرا سوى التقاط البعر من الطرقات والشوارع ، فاتخذا ذلك مهنة لهما ، وفي يوم من الأيام وهما على عملهما ارادت السعادة أن تحنو عليهما فلمح الحسن (ع) العجوز فعرفها ، وقد حل وفاء الدين ، والمعروف في ذمة الأحرار دين فأمر (ع) غلامه أن يأتي بها إليه ، فلما مثلت بين يديه