للنفوس بعد مفارقة الأبدان التي يراها الشيخ الرئيس وغيره بمثابة المانع الذي يمنع النفس الإنسانية عن مطالعة الحقائق الوجودية ، وبالخصوص أن مشاهدة ومعرفة وإدراک هذه الحقائق والمعارف متعلق بکمال النفس ووصولها إلى مرتبة العقل التي تضاهي بها العقول المجردة الأخرى ، وهو کمالها الخاص بنظر الشيخ الرئيس انب سينا كما جاء في كلامه : ( ... إنّ النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالماً عقلياً مرتسماً فيها صورة الکل ، والنظام المعقول في الکل ، والخير الفائض في الکل مبتدئة من مبدأ الکل إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان ، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها ، ثم کذلک حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود کله ، فتنقلب عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود کله ، مشاهدة لما هو الحسن المطلق والخير المطلق والجمال والحق المطلق متحدة به ، ومنتقشة بمثال هيئة ، ومنخرطة في سلکه ، وصائرة من جوهره ، فإذا قيس هذه الکمالات المعشوقة التي للقوى الأخرى وجد في المرتبة التي بحيث يقبح معها أن يقال : إنّه أفضل وأتم منها ، بل لا نسبة إليها بوجه من الوجوه فضيلة وتماماً وکمالاً وکثرة و ... وأما الدوام فکيف يقاس الدوام الأبدي بدوام المتغير الفاسد ... وأما شدة وصول فکيف يکون حال ما هو وصوله بملاقاة السطوح بالقياس إلى ما هو سار في جوهر قابله حتى يکون کأنه « هو هو » بلا انفصال إذا العقل والعاقل والمعقول واحد أو قريب من الواحد ، وأما أن المدرک في نفسه أکمل فأمر لا يخفى ، وأما أنّه أشد إدراکاً فأمر أيضاً تعرفه بأدنى تأمل وتذکر لما سلف بيانه ). (١)
نستشعر من بيانه لرغبة الحکماء في طلب السعادة ، أنّه يريد أن يؤکد هذه الحقيقة التي تدل على أن للنفس الإنسانية نوع سعادة لا تدرک إذا وصلت وبلغت کمالها الخاص بها ، وهو مراد الحکماء في الوقت الذي قد لا تبلغ فيه النفس ذلک
ــــــــــــــــ
١. النجاة ، ص ٢٩٣.