وقد خالف بهذا الإجراء ما أثر عن الإسلام في منحه الحريّات العامة للناس جميعاً ، فقد منحهم حرية الرأي والقول ، وحرية العقيدة وحرية العمل ، وجعلها من الحقوق الذاتية للإنسان ، وألزم الدولة بحمايتها ورعايتها وتوفيرها ، وليس للسلطة أن تقف موقفاً معاكساً أو مجافياً لها ، شريطة أن لا يستغلّها الإنسان في الإضرار بالغير أو يحدث فساداً في الأرض.
وبرّر الدكتور طه حسين ما اتّخذه عمر من فرض الحصار على الصحابة بقوله : ولكنه خاف عليهم الفتنة ، وخاف منهم الفتنة ، فأمسكهم في المدينة لا يخرجون منها إلاّ بإذنه ، وحبسهم عن الأقطار المفتوحة لا يذهبون إليها إلاّ بأمر منه. خاف أن يفتتن الناس بهم ، وخاف عليهم أن يغرّهم افتتان الناس بهم ، وخاف على الدولة أعقاب هذا الافتتان (١).
ولا يحمل هذا التوجيه أيّ طابع من العمق والتحقيق ، فإن الصحابة الذين حاولوا السفر من يثرب إلى الأقطار المفتوحة إن كانوا من الأخيار والمتحرّجين في دينهم فإنهم بكل تأكيد يكونون مصدر هداية وخير للشعوب المتطلّعة لهَدي الإسلام ، فإنهم ـ من دون شك ـ يذيعون فيهم أحكام الدين وآداب الإسلام ، ويعملون على تثقيفهم ، وإن كانوا من الذين غرّتهم الدنيا وخدعتهم مظاهر الفتوحات الإسلامية ، فله الحقّ في منعهم عن السفر رسمياً لا شرعاً ؛ حفظاً على مصالح الدولة ، ووقاية للناس من الفتنة بهم ، ولكنه لم يؤثر عنه أنه فرض الحصار على فريق من الصحابة دون فريق ،
__________________
(١) الفتنة الكبرى ١ / ١٧.