وبعد أن فرغ المسلمون من الصلاة على الجثمان العظيم وودّعوه الوداع الأخير قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) في غلس الليل ؛ فوارى الجثمان المقدّس في مثواه الأخير ، ووقف على حافة القبر وهو يروي ترابه بماء عينيه ، وقال بصوت خافت حزين النبرات : «إنّ الصبر لجميل إلاّ عنك ، وإنّ الجزع لقبيح إلاّ عليك ، وإنّ المصاب بك لجليل ، وإنه قبلك وبعدك لجلل» (١).
لقد انطوت ألوية العدل ، ومادت أركان الحق ، وارتفع ذلك اللطف الإلهي الذي غيّر مجرى الحياة إلى واقع مشرق ، تتلاشى فيه آهات المظلومين والمعذبين ، ولا يكون فيه ظلّ للحاجة والحرمان ، ويجد فيه الإنسان جميع ما يصبو إليه من الدعة والأمن والاستقرار.
وفزعت العترة الطاهرة من موت الرسول (صلّى الله عليه وآله) كأشد وأقسى ما يكون الفزع ، فقد خافت من انتفاض العرب الذين وترهم الإسلام عليها ؛ فإنّ نزعة الأخذ بالثأر متأصّلة وذاتيّة عند العرب وغيرهم ، وقد كانت قلوبهم مليئة بالحقد والكراهية لأسرة النبي (صلّى الله عليه وآله) يتربّصون بها الدوائر ، ويبغون لها الغوائل للانتقام منها ، وكانوا يرون أنّ علياً هو الذي َوتَرها وأطاح برؤوس أبنائها ؛ فهي تتطلّع إليه للأخذ بثأرها منه ، وقد أيقن علي (ع)
__________________
(١) نهج البلاغة ـ محمد عبده ٣ / ٢٢٤.